«كان في جميع أنحاء البيت لا يتحرك أي كائن، ولا حتى فأر. كانت الجوارب معلقة بعناية فوق المدفأة على أمل أن يحضر القديس نيكولاس على الفور. كان الأطفال مستقرين في أسرّتهم ينعمون بالدفء، وهم يحلمون بقطع الحلوى الشهية وهي ترقص أمام أعينهم. وأمهم مغطاة الرأس بمنديلها وأنا بطاقيتي (قلنسوتي)، قد استسلم فكرنا لغفلة شتوية طويلة، عندما صدر في الخارج صوت طرقعة. طرت إلى النافذة بسرعة البرق. لم يظهر أمام عينيّ المتسائلتين سوى زلاجة صغيرة جداً تجرّها ثمانية غزلان وسائق عجوز صغير الحجم في منتهى الحيوية والسرعة. في لحظة واحدة أدركت أنه لا بد أن يكون هو القديس نيكولاس. جاءت جياده أسرع من النسور، أما هو فقد أطلق صفارة لها وناداها بأسمائها. كأوراق الشجر التي تطير قبل الإعصار الشديد، عندما يصطدم بعائق وتصعد إلى السماء، كذلك الجياد قفزت إلى أعلى المنزل، بالزلاجة المليئة بالألعاب والقديس نيكولاس أيضاً. وبينما أدرت رأسي لأنظر حولي، وجدت أسفل المدفأة سانت نيكولاس ينحني للتحية. كان يرتدي الفراء من رأسه إلى قدمه، وقد ألقى فوق ظهره صرة مليئة بالألعاب، وبدا كأنه بائع متجول»- كليمنت كلارك مور، الليلة التي تسبق الميلاد، 1823.

اعتمد الرسام الأميركي هادون ساندبلوم (الملقّب بساني) مقطعاً من قصيدة مور السابقة، التي تُعد أول تمظهر «حديث» لسانتا كلوز في الأدب، يقول: «عيناه تلتمعان، وغمازاه ظاهران من السعادة! وجنتاه كانتا كالأزهار، وأنفه كالكرزة! كان فمه الصغير السعيد مرسوماً كقوس، ولحيته على ذقنه بيضاء كالثلج، يحمل غليونه بقوة بأسنانه، والدخان يحيط برأسه كإكليل. كان له وجه واسع، وكرش مدوّر صغير/ كرش يهتز حينما يضحك، أشبه بإناء من الجيلي». استوحى ساندبلوم المقطع السابق في حملة ترويجيّة لكوكاكولا حتى تزيد من مبيعاتها خلال الشتاء. اشترك سانتا كلوز مع كوكاكولا الشركة الناشئة أواخر القرن التاسع عشر، وقتها، باللون الأحمر نفسه، كهويّة بصريّة ولونيّة. كان شعار الحملة: «أرفع قبعتي، للوقفة التي تنعشني»، أو: «العطش لا يعرف سبباً». استخدمت كوكاكولا في ما بعد، في إعلاناتها السنوية، صوراً كثيرة لسانتا، يحمل أو يشرب فيها المشروب السحري، أو يتلقاه كهدية، واستهدفت عن طريق ذلك شريحةً هائلة من المشترين الجدد: الأطفال. في واحد من الإعلانات اللاحقة تظهر طفلة صغيرة ترقب سانتا بعينيها وهو يتجرّع من الزجاجة السحرية، وأمامه شعاع من ضوء مُسلّط على زجاجة أخرى مغلقة على يمين الإعلان. تقول الطفلة: «وأنا أيضاً!». وفي إعلانات أخرى تتحلّق مجموعة من الأطفال أمام سانتا، مرّة يراقبونه وهو يشرب، أو يدخن من شركة تبغ معروفة، أو يأكل شوكولا شهيرة، أو يقود سيارة بدل زلاجته. يراقبه الأطفال كي يقلّدوه في ما بعد، أو ينسخوا ما يفعله، فالشرط كي يتلقّوا هداياهم منه هو سلوكهم الحسن، وأي سلوك أفضل من السلوك المُستنسخ عن واضع الشرط، سانتا كلوز نفسه؟ مدمن التبغ والشوكولا والمشروبات الغازية، والذي يختار نوعاً محدداً من السيارات لا يمكن إلا لنسبة ضئيلة (جداً) من أطفال العالم أن يتخيلوا أنهم يقودون مثلها، أو أن يعرفوها في الأصل.
ليست كوكاكولا الشركة الوحيدة التي وظّفت سانتا لزيادة أرباحها، بل فعلت ذلك شركة سجائر تركية سنة 1919، وشوكولا ويتمان سنة 1935، واستمرت الدعاية، عن طريق القديس الذي يساعد الفقراء في قصته التاريخية قبل عدة قرون، في عدد هائل من الشركات، آخرها آيفون وشيفروليه قبل مدة ليست بعيدة.
ظهور سانتا كمندوب مبيعات أو مُروِّج تطلّب تعديلات كثيرة في شكله، بعد صوره الأولى التي رسمها رسام الكاريكاتور الأميركي توماس ناست خلال الحرب الأهلية الأميركية. كانت الغاية واحدة من كلّ التمظهرات اللاحقة: تطويع الشكل وليّه ليصير ملائماً للعلامة التجارية، وكي يصبح علامة سيميائية رأسمالية، وشعاراً استهلاكياً، أي ليصير، في شكلٍ لاحق، رمزاً واضحاً وصريحاً لهيمنة الرأسمالية، وتدفّق سائلها، أو حاملاً إيديولوجياً يوظَّف في الحروب قبل الترويج للمنتجات: وقد حقّق هدفه الحربي والدعائي والتحريضي عدة مرات على أكمل وجه، ما يعني أنه لم يعد لأطفال العالم كلهم، بل لأولئك الذين ينتصر آباؤهم في حروب القتل. كما أنّ شكله، كإناء من الجيلي، يساهم في تمييع القتل، وتوضيعه في إطارٍ من اللعب، والواجب الديني، والسلوك الحَسَن الذي يستدعي هدية من صرّة مليئة بالألعاب آخر السنة.
لكن قبل ذلك بكثير، ومن قصيدة مور نفسها، سوف ينغلق سانتا كلوز على نفسه، وسوف تتحدّد البيوت التي يزورها، والأطفال الذين ينتظرونه. يتوضّح ذلك من خصوصية القصيدة التي كتبها رجل متخصص في الآداب القديمة يتقن ست لغات، إسعاداً لأبنائه الستة، أحفاد موظف بارز في نيويورك، وأبناء رجل تروي كل المراجع عنه أنه كان في حالة مادية ممتازة. بكلمات أخرى: لم يكن الرجل فقيراً. وبالتالي، فإنّ الأطفال الذين «في أسرّتهم» كان لكل واحد منهم سرير، وكان في بيتهم مدفأة، علّقوا إلى جانبها جواربهم، وكانوا يستطيعون الحصول على قطع حلوى «ترقص أمام أعينهم»، إلّا أنّ الوصف التجاريّ الذي حدّده مور في النهاية سيلتصق بسانتا، ولن يعرف منه فكاكاً حتى هذه اللحظة، هو: «بدا كأنه بائع متجول». والبائع هو الذي يبيع سلعة، والبيع صفقة يتمّ بموجبها تبادل الشيء بالشيء أو بما يساوي قيمته، ما يعني أنّ ما يقدّمه سانتا كلوز حين يزور في الليل، من الصرّة المليئة بالألعاب فوق رأسه، إنما يقوم على مقابل، على شيء شرطيّ، مرهون ومُعلَّق على شيء يُقدَّم طوال سنة، تتمّ مبادلته بشيء آخر في ليلة واحدة. والشرط هو ما يوضع ليُلتزم في بيعٍ أو نحوه، إذا تمّت مخالفته أو عدم العمل به، فلن يجيء سانتا في الليل. غير ذلك، يترك الأطفال لسانتا، في القصص الشعبيّة المعروفة عنه، حليباً وقطع بسكويت، يعتبرونها وقوداً له خلال ليلته المزدحمة، أما في فرنسا فيتركون له براندي أو نبيذاً، وهو ما كان أبناء مور الستة قادرين عليه حتماً.
تُختزل مأساة الأطفال «الآخرين»، الذين لا يزورهم سانتا، ولا يستطيعون تأمين «وقوده» من الحليب والبسكويت، ولا يستطيعون تحقيق الشرط السنويّ المفروض، وليس لديهم جوارب يعلّقونها أمام مدفأة هي نفسها ليست موجودة، في جملة الاستهلال من قصة لتشيخوف: «في ليلة عيد الميلاد لم ينم الصبي فانكا جوكوف ابن الأعوام التسعة».
ينقسم الأطفال في ليلة عيد الميلاد قسمين إذاً: أولئك الذين لا يستطيعون النوم من فرط حماستهم، وإطلالهم برؤوسهم كلّما انقضت دقيقتان من على أسرّتهم نحو جوارب الصوف الطويلة الموضوعة إلى جانب المدفأة، ولأحلام يقظتهم بالحلوى التي ترقص أمامهم، وكذلك بسبب تخيّلهم لهداياهم. أما الآخرون، فأولئك الذين تعلو أصوات أمعائهم التي تتلوّى من الجوع على السكون الذي يتطلّبه النوم، وتعلو أصوات طقطقة عظامهم من الصقيع على الثبات الذي تتطلّبه إغماضة العين.
ينقسم الأطفال في ليلة عيد الميلاد قسمين: أبناء كليمنت كلارك مور الستّة، وأبناء الشاعر الفقير الذي صوّره الرسام والشاعر الألماني الرومانسي كارل شبيتزفيج في لوحة سنة 1839، بعد ست عشرة سنة من قصيدة مور.
سانتا، كبائع متجوّل، وبوصفه يبادل شيئاً بشيء، يشترط أن يكون الشيء الذي يبادل واحدة من هداياه به جزءاً من سلوك، ينطوي على أن يكون الطفل مؤدباً، غير مشاغب، صامت، لا يشاكس، لا يجادل، يومئ برأسه، لا يقوم بحِراك، أو تمرّد، أي يمتثل لأي نوع من السلطة، بدءاً من سلطة أبيه، إلى سلطة السلطة. أما الذين في طبعهم نقيضٌ من ذلك، وما لهم صامت ولا ناطق كما يجيء في معجم المعاني: الفقراء الذين لا يملكون شيئاً، فأولئك يعاقبهم سانتا بالفحم، أو يرسل رفيقاً له يعاقبهم بأحجار الفحم.
كان الأطفال، في الفترة التي كتب فيها مور قصيدته، حتى أواخر قرنه، هم الذين يعملون تحت الأرض، بمجرفة وفي ظروف خطرة، لاستخراج الفحم من المناجم. وقد قال ديكراك لفنسنت فان غوخ في البوريناج (منطقة تعدين للفحم الحجري) حين أُرسِل فنسنت مُبشِّراً إلى هناك: «إننا نبدأ في الهبوط إلى المناجم صغاراً في سن الثامنة أو التاسعة، لا فرق بين ولد وبنت، فلا يكاد واحدنا يصل إلى عامه العشرين حتى يصاب بالحمى وأمراض الرئة»، كما يروي إيرفينج ستون في روايته الكلاسيكية «فنسنت فان غوخ» أنّ الأخير دأب في كل يوم من أيام إقامته في البوريناج على مسح وجهه بغبار الفحم لكي يستوي في مظهره مع جميع الآخرين. طوال الفترة التي عاشها فنسنت في البوريناج، ومرّت فيها ليلة عيد الميلاد مرتين أو ثلاثاً، لم يُذكر أنّ الأطفال كانوا ينتظرون سانتا كلوز أو حتى يفكّرون به، بل كانت حوادث أخرى تجري لهم: سقوط منجم فحم على أجسادهم وهم تحت الأرض، نفاد أي خرقة قماش تقيهم شرّ البرد، وأي لقمة من طعام تسدّ جوعهم. كانت الحوادث التي تجري لهم من نوعٍ آخر، غير مُدرَجة في معجم سانتا الحديث، الذي كان مشغولاً بتقديم ملابس من الصوف لأطفال في مكان آخر، على الأغلب هم أبناء أصحاب المناجم.
«عام 1951، عند إصلاح الكنيسة التي دُفن بها سانت نيكولاس (في قصته التاريخية) جنوبي إيطاليا، وجد العلماء أن ملامحه تشير إلى أنه رجل في منتصف العمر، ذو ملامح شرق أوسطية ولحية طويلة، والصورة ثلاثية الأبعاد تشير إلى أن بشرته قمحية اللون وعينيه بنيتان، وأنفه مكسور». تحطّمت تلك اللحظة أسطورة سانتا كلوز الأبيض، الإناء من الجيلي، بلحيته البيضاء كالثلج، وتحطم تصويره في قصيدة مور، وكل تمظهراته بعدها.
سانتا كلوز «الحديث» لا يمسح وجهه بغبار الفحم كي يستوي في مظهره مع الأطفال من عمال المناجم مثل فنسنت، بل يعاقب «السيئين» بالمُنتَج الذي يستخرجه هؤلاء، قبل أن يسقط المنجم عليهم.
يُقال في بعض الروايات إنّ سانتا يُرسل «كرامبوس» قبله بليلة، كي يعاقب الأطفال الذين يسيئون التصرف «فيدخل إلى كل طفل منهم، ويضربه بحزمة من أعواد البتولا، ويشبك مخالبه بشعر كل طفل، قبل أن يلقيه داخل سلة من الخوص، أو كيس من القماش، ويصطحبهم جميعاً معه إلى الجحيم لمدة عام». وكرامبوس، الغارق في القِدم، نصف شيطان، له ذيل أفعواني، وقرنان طويلان، يتجوّل في المساء، بساقي عنزة سوداء. كان نقيضاً لسانتا من قبل ثم صار رفيقاً له، يرسله الأخير بالإنابة عنه من أجل المعاقبة، فيما يحتلّ لنفسه مهمة الإثابة. يُرسله إلى الأماكن التي «يقرف» أن يزورها، فيما يذهب هو إلى القصور، والبيوت الكبيرة، كي ينحني أمام المدفأة قليلاً.
مَن هم أولئك الذين يسيئون التصرف، وفقاً لسانتا؟ من معجمه الحديث يمكن استنتاج أنهم الذين لا يستطيعون أن يبقوا صامتين، دون مشاكسة، أو حِراك، والذين لا يمتثلون للقمع، وللمواقف النهائية لوجودهم. الذين لا يستطيعون أن يتركوا له وقوداً من حليب وبسكويت، وليس عندهم جوارب ولا مدفأة، ولا سرير، لا يعرفون كوكاكولا ولا شوكولا ويتمان، ولم يسمعوا من قبل بآيفون وشيفروليه. هؤلاء بالنسبة إلى «أبو كريسسماس» لا يستحقون الزيارة، يتأنّف من زيارة الأماكن المسجونين فيها، ولذا يستحقون عقاباً من «كرامبوس» لأنهم خالفوا الشرط، ولم يستطع آباؤهم إغلاق أفواههم البكّاءة بقطعة ويتمان، أو رضّاعة كوكاكولا، أو جولة على مِقود شيفروليه. هؤلاء: جاعوا، بردوا، فبكوا.