نُشِرت السنة الماضية تقارير في مواقع إخبارية عن الشاب مهدي شعبان، الذي ورث مهنة حفر القبور عن والده، وعمل فيها أكثر من عشر سنوات بسبب ظروفه الاقتصادية السيئة، وشعبان من شمالي قطاع غزة كان له من العمر السنة التي فاتت تسع وعشرون سنة، حاز خلالها على ماجستير في اللغة العربية وكان حفر القبور رافعةً له إلى حلمه، ثم عمل جزئياً بالتدقيق اللغوي. وفي السنة التي فاتت كذلك، في مقبرة «الفالوجة» شمالي قطاع غزة، توجه شعبان إلى حفر قبر كانت قد حجزته للتو إحدى العائلات، وكان شعبان قد قضى ثلاث ساعات بآلاته اليدوية يحفر وينظف القبر ويعدّه، وحين انتهى انتقل إلى قبر آخر كي يثبّت شاهده. وقال شعبان في واحد من الحوارات معه السنة الفائتة، إنّ دخل هذه المهنة لا يكفي لأنه يُوزَّع على عاملين كثر، وشعبان كما يقول عنوان التقرير: «حفار قبور معوله درجة ماجستير».تقرير ثانٍ، نُشر يوم 12 من الشهر الجاري في عدد من المواقع، عنوانه: «مكفِّن غزة يروي مشاهد صادمة: أشلاء الأطفال تطارد منامي»، وهو الدكتور ياسر المُكنّى بأبو عمار، مشرف مغسلة وثلاجات الشهداء في مستشفى شهداء الأقصى وسط قطاع غزة. والدكتور ياسر، بينما يجري حواره، كان يدوِّن كلمة «مجهول» على أحد الأكفان، وكان قد جهّز أكفاناً أخرى تحوي أشلاء متحلّلة لشهداء مفقودين، مكدسة بعضها فوق بعض، وكان قد نادى الناس لصلاة الجنازة على الأشلاء، كي تُدفن في قبر جماعي. نسبة الجثث «السليمة» التي وصلت الدكتور ياسر تشكل عشرة في المئة فقط من الجثث التي وصلته، وعشرون في المئة منها يصعب التعرف إليها لكثرة التمزق والتقطيع وضياع معالم الأشخاص، وكان يصل إلى الدكتور ياسر يومياً بين 70 إلى 250 شهيداً، وقد نصبت خيام لوضع الجثث فيها لأن الثلاجات لم تعد تكفي، والمقابر كذلك لم تعد تتسع، وكان الدكتور ياسر ومَن معه يحاولون أن يتسع الكفن الواحد لثلاثة أشخاص، وكانوا يكفّنون بطبقة واحدة من القماش الأبيض عوضاً عن ثلاث طبقات كما تُملي الشريعة.
بين التقريرين، أو الحوارين مع مهدي شعبان والدكتور ياسر، 2022 2023، خرج الموت في غزة عن «طوره الطبيعيّ»، وخرج الجسد الإنسانيّ في حالة موته وما يتبعها من إجراءات «طبيعية» إلى أطوار كابوسيّة، غير طبيعيّة. خرج الجسد عن الهيئة الطبيعيّة التي ينبغي أن يكون عليها حتى في حالة الموت، وصار المكفِّن، والحفّار من بعد، يتعاملان مع موتٍ ناقص، موت ينقصه جسد: يد، قدم، رأس، كبد، معدة، أو عضو من تلك الأعضاء الكثيرة في الجسد الآدميّ.
كلّ الدراسات الفقهية وتقارير «الصليب الأحمر» مثل التعامل مع «الموتى» من منظور «القانون الدولي الإنساني»، تواجهها جملة وحيدة تخرج عن سياقها من قصيدة «حفّار القبور» لبدر شاكر السيّاب تقول: «وهزَّ حفّار القبور يُمناه في وجهِ السماء وصاح: ربِّ أما تثور».
يختتم هوميروس ملحمته «الإلياذة» بجملةٍ أخيرة: «هكذا أقاموا طقوس الجنازة لهكتور مروّض الخيول»، وكان النشيدان الأخيران منها (أي الإلياذة) وصفاً تفصيلياً لجنازة كل من بتروكلوس وهكتور، الأمر الذي يوحي كم كانت مراسم الجنازة تعني اليونانيين وتحظى باهتمامهم، كما أنّ نظرة موجزة للملحمة ومن بعدها كثير من المسرحيات اليونانية، تكشف أنّ أغلب الصراع اليوناني ناشئ عن صدامات تتعلق بالموت والطقوس التي تليه مثل تطهير الجسد وتطييبه بالعطر، من ثم دفنه. وكان اليونانيون إذا مات لهم إنسان يغلقون عينيه، ويضعون بين أسنانه قطعة من النقود كي يدفعها أجرةً لخارون، الملّاح الذي ينقل الموتى في العالم الآخر، كما يُغطى وجه الميت بقناع، وتغسل الجثة وتدهن بالعطور، وتُكفَّن في ثلاثة أكفان بيضاء. ثم يرقد الميت في بهو المنزل على سرير تُحاط به القرابين، وأثناء عرض الجثة يقوم الرجال والنساء بالنواح على التبادل: الرجال وهم واقفون وأذرعهم ممدودة إلى الأمام وراحة اليد مفتوحة والأصابع مضمومة، أما النساء فينتزعن شعورهنّ. ويظلّ عرض الجثة نهاراً بكامله، وفي اليوم التالي قبل الفجر - كي لا تنجس الشمس من هذا المشهد - تُرفع الجثة وتحمل على عربة أو سرير، تتبعها امرأة معها إناء فيه مواد الرش أو الوضوء، وكانت إما من النبيذ أو العسل، ثم يتوقف النواح والعويل، وتسير الجنازة في مركب مؤلف من الرجال ومن أقرب الأقربين للميت، في صمت.
لماذا هذا العرض لما كان يفعله اليونانيون تكريماً لموتاهم، قرابة ثلاثة آلاف سنة إلى الوراء أو أكثر؟ للقول إنّ ما كان «طبيعياً» وحقاً مشروعاً، بل قانوناً إلهياً يتدخل حتى زيوس وأفروديت وكل آلهة اليونان في تنفيذه إن اعترض أحدٌ عليه، هو اليوم في غزة حلم لا تستطيع الحضارة الحديثة برمتها أن تمنحه لإنسان ميت. عنوان كتاب روجيه غارودي الذي وضعه أوّل الألفية هو تدليل كافٍ على العالَم مواجه غزّة: «حفّارو القبور: الحضارة التي تحفر للإنسانيّة قبرها». ومع ذلك، فإنّ هذه «الحضارة» و«ديموقراطيتها الوحيدة في الشرق الأوسط» لا تحفر للإنسانيّة - غزة - قبرها، بل تترك الغزّي ميتاً، محروماً من حقه في كفن أبيض من ثلاث طبقات قماش والدفن في قبر.
دفن الموتى في قبر، بالنسبة إلى الأحياء من أسرهم وأحبابهم، هو تأمين نوعٍ من الوجود المتّصل لهم، بوصفهم راحلين. كما أنّ الحسّ الزمانيّ، أو حسّ الإنسان الذاتيّ بالزمان، قد نشأ من فكرة مشابهة، عندما توصّل إنسان نياندرتال (حوالى خمسين ألف سنة قبل الميلاد) إلى دفن موتاه، وأسطورة قابيل وهابيل حاضرة في كل الأوقات للإشارة إلى هذا. يحاول الاحتلال الإسرائيلي القضاء على الحسّ الزمانيّ هذا في غزة، والقضاء على «الوجود المتّصل» الذي يُبقي الموتى على صلة بأحبّائهم. واحدة من طرق الاحتلال الكثيرة في الإبادة لتحقيق ذلك هو إبادة عائلة بكاملها (لا نعني بهذا أباً وأماً وأطفالهم، إنما عائلة أي: كنية، بما لهذه الكنية من امتدادات لأسرٍ كثيرة) ومحوها من السجلّ المدني. ذلك لا يقطع فقط الصلة أو الوجود المتّصل بين إنسان ميت ومَن بقي حياً من أسرته، بل يقطع صلة عائلة كاملة بالمكان بأسره، كأنها لم تكن أبداً. لكن قد علّمنا أفلاطون، كما يقول نيقولاي بيرديائيف، إنّ «المعرفة تذكُّر، أو بتعبير آخر هي انتصار على دولة الزمان».
يقتحم الفلسطينيّون بالتذكّر الماضي، زمناً لم يعد كائناً لكنّ آثاره وشظاياه كلّها في الحاضر، وبهذا الاقتحام، بالتذكُّر، تذكّر الموتى، ولو كانوا بلا قبور، ولو كانت أجسادهم بلا ملامح، بالتذكُّر، يستولد الفلسطينيّ، الغزّي، إحساساته كلّها، ويرتبط بالحاضر ارتباطه بالتذكُّر نفسه، فالحاضر خروجٌ عن المسار الطبيعيّ الذي كان لا بدّ أن يكون، يمتدّ ذلك إلى تذكُّر الأجساد نفسها، التي كان يجب أن تكون في حالة طبيعية، وخلق وجود متّصلٍ لها.
كان سكّان جزر تروبراياند التي تقع على مبعدة من غينيا الجديدة يؤرّخون الأحداث بقولهم إنها وقعت «أثناء طفولة س» أو «في السنة التي تزوج فيها ص»، وأحداث غزة متزامنة، يؤرَّخ لموت طفل بموت طفل، ولإبادة عائلة بإبادة عائلة، وللعثور على أشلاء بالعثور على أشلاء. يؤرَّخ في غزة للموت بالموت.
في نقد بول ريكور لفهم هايدغر للوجود والزمن (الذي يجرّد الوجود من بعده الاجتماعي)، يستند ريكور على أساس التواصل الإنساني الاجتماعي، القائم على السرد واللغة. ويرى أنّ حركة الزمن لا تتوقف بالموت، بل تظل موجودة مع وجود الجماعة، ووجود التواصل بينهم، والسرد هو العنصر الأساسي الذي يضمن استمرار الحركة، عبر ما ينطوي عليه من تفاعل عضوي بين الماضي (زمن المسرود) والحاضر (زمن السرد)، ما يعني أنّ الكمون الزمني الماضي للوجود المسرود، يتم بعثه واستعادته باستمرار عبر السرد الحاضر، وهو ما يطلق ريكور عليه «الهوية السردية».
صحيح أنّ فهم ريكور هنا ينطبق على الأدب، لكنه ينسحب على غزة كذلك: إنّ «المسرود» في غزة هو الموت، و«السارد» هو ما تبقّى من حياة. «المسرود» هو الجسد الذي شوّهه الموت، واقتطع منه ما اقتطع، وسلب منه ما سلب، أخفى معالمه، وسرق ملامحه الإنسانيّة التي تميّزه ويُشار إليه من خلالها. «المسرود» هو الوجه الذي لا يُعرف له اسم، وهو الطفل الذي لم يلحق أبواه أن يختارا له اسماً، والطفلة التي ما يزال أبوها يلاعبها ويغنّجها ويقول إنها روح روحه. المسرود هو خمسة عشر ألف شهيد: ستة آلاف طفل، أربعة آلاف امرأة، والسارد هو المُكفِّن الذي تطارد الأشلاء مناماته، والحفّار الذي صارت غزّة كلها مقبرته: عوض الآلات اليدوية مثل الرفش والمعول، ثمة جرافة تحمل كماً هائلاً من التراب وتهيله على عشرات الجثث الموضوعة في قبر جماعي ضخم، قريبة من بعضها قرب الحيّ إلى الحيّ، يدٌ تمسك أخرى، هناك تحت التراب، وثمة أحاديث كثيرة لم تكتمل.
يحاول الاحتلال حرمان الشهداء من الدفن، وقال اليونانيون إنّ حرمان الميت من الدفن يعني انتزاعه من الآلهة، وذلك خطيئة لا في حق الميت وحسب، بل في حق الآلهة. يحاول الاحتلال أن ينتزع شهداء غزة من الله، «وهزَّ حفّار القبور يمناه في وجه السماء وصاح: ربِّ...». كانت شعائر المصريين القدماء تقتضي تلقين الميت عبارة قصيرة، تجمع بين «السارد والمسرود»، هي نفسها الكلمات التي يهمسها ويلقّنها المُكفِّن وحفّار القبور في غزة في أذن الشهداء: «أنا الأمس، واليوم، والغد».