بينما نكتب سطور هذه المقالة هناك المئات من الأطفال الذي يسقطون ضحايا القصف الإسرائيلي الذي يستهدفهم عمداً في غزة. خارج نطاق الحرب، أي على الحدود البعيدة من غزة، ظهرت حملات دعم للأمهات هادفة إلى تأهيلهن نفسياً في هذه الأوقات. الحملات تدعوهن إلى مقاومة القلق والاكتئاب إزاء أخبار الحرب وصور أشلاء الأطفال ومشاهد الجثث الموجودة في كل مكان، وتذكرهن بأنّ أطفالهن بخير. على مواقع التواصل الاجتماعي وبمختلف اللغات، تتساءل الأمهات البعيدات من غزة، النساء اللواتي يشاهدن صور الإبادة الحاصلة، ببالغ الأسى: «ما ذنب الأطفال؟».
«الأم الفلسطينية تربي أبناءها على حب الوطن»، رشاد السامعي.

يظهر قلق الأمهات من الإنجاب كلما طغت الأحداث المأساوية على الواقع. يتساءلن: هل الحياة مكان آمن بما يكفي لإنجاب الأطفال؟ قد تصاب بعضهن بالندم، وقد يغلب على تفكيرهن الخوف من العجز عن حماية أبنائهن. وهذا بالطبع ليس غريباً، فالعقل يميل إلى توقع أسوأ الاحتمالات حتى يستطيع حماية نفسه من المأساة، وبخاصة إذا كانت المأساة أشبه بتراجيديا تأخذ شكل الموت الذي يحلّق عن كثب.
على هذا الأساس، قد يتصور البعض أن حدوث الكوارث يمنع الأشخاص من إنجاب المزيد من الأطفال ولكن غالباً ما يحدث العكس. إنّ النظر إلى هذا التصور من بعيد لهو شيء مخيف، ويهدّد وجودنا. إننا نرى أبناء فلسطين المحتلة الذين يولدون في المخيمات والفقر يكبلهم، وهم تحت ظل العنصرية والتهميش، وتحت تهديد الاعتقال والقتل أيضاً. هذا التصور سيقود إلى سؤالهم القميء المبتذل: في وسط هذا الواقع الوحشيّ المظلم، لماذا ينجب الفلسطينيون الأطفال؟ إن هذا السؤال الفظ، المنزوع عنه الحس الإنساني والمتجرد من الوعي الحقيقيّ ينظر إلى الأطفال على أنهم مجرد أشياء، ناهيك عن الأدلجة والفوقية والعنصرية الموجودة في لا وعي الناظر. فكلام كهذا يعدّ من التعبئة اللفظية، هو تنظير أجوف على الحياة القاسية التي يعيشها الفلسطينيون والتي يصفونها بـ«الرديئة». لكن على هذا السؤال أن يستبدل ويحلّ مكانه السؤال الحقيقي: من سلبهم الحياة الآمنة وترك لهم الحياة «الرديئة»؟ وبأي حقّ يمكنك أن تمنع أحداً من الإنجاب؟
إن الشعور بالذنب الذي يصيبنا عقب رؤيتنا للموت هو شعور حقيقي، لأنه يحمل الخوف من ذاك المجهول الذي هو على تضاد من وجودنا. نحن من نمنح الوجود لأبنائنا، والآن ننظر إلى الموت من بعيد، ولا يسعنا سوى أن نبحث عن مذنبين غيرنا. فيتّضح أن سبب وجود هؤلاء المذنبين هو القتل الذي يمتهونه. إن الأم التي تحتضن ولدها بين ذراعيها بأمان لا تعرف تهديد الفناء. ولكن الأم التي تستخرج ولدها ممزقاً من تحت الحطام لا تعرف سوى التحدي من أجل البقاء.

عداء مع الوجود
إنّ الحرب هي تهديد للحياة. في الحرب، إن فناء حياة الأول هو شرط أساسي لبقاء الثاني. فالنصر ضروري ولو أتى بكل الوسائل، ولذلك يستهدف الكيان الصهيوني الأطفال في كل مرة ذلك لأنهم، بالدرجة الأولى، نقطة ضعفنا. ولأنهم، بالدرجة الثانية، يريدون اغتيالنا معنوياً وسلبنا القدرة على المقاومة. يقصف الإسرائيلي المزيد والمزيد من الأطفال وبلا توقف، وبذلك يظن أنه يسلب البقاء من بين أيدينا.
لقد سرق الإسرائيلي حق الفلسطيني في الحياة، وشيّد حدوداً لوجوده، وأطّره في مجموعات، وقتل فردانيته، وسرق هويته. لم يبق للفلسطيني سوى حقه في الزمن، وعمره الذي يمر أمامه. ولكي لا يفقد هذا الحق، فعليه أن يمرره لأبنائه الذين سيمررونه بدورهم لأحفاده حتى يقدر أحدهم يوماً ما على استرداد الهوية والبيت الذي يحوي ويحافظ على هذا الزمن.
إن دعوات اللا إنجابية التي تأتي من أعلى معاناة البشر وتنظر لها بعين صمّاء ليست سوى دليل التشاؤم من الوجود. التشاؤم الذي يصيب فاقدي الأمل من قدرتهم على منح حياة سعيدة للأطفال. من الممكن أن يساعدنا التشاؤم لنسير بحذرٍ في مسار الحياة، فنستطيع بناء عالم محتمل لنا ولأبنائنا، غير أنه قادر أيضاً على جعلنا ننسحب من الحياة بحجة تجنب الألم، فنصبح بذلك أعداء لوجودنا ولا نقدر على التماس معنى الرحابة في حلم المقهورين بغدٍ أفضل.

الخلود
إنّ الخلود هو نقيض الفناء لكنه ليس من إمكانات الإنسان. الموت حتميّ لا مفر منه بيد أن في وسع الإنسان أن يحقق خلوده رمزياً. تنجب الأمهات الأبناء لأنهن مدفوعون بميل مناهضة الموت. إنّ رمزية الخلود هي تجاوز للأنانية، والانتفاض ضمن جماعة، وفي حالة فلسطين، فعملية الإنجاب هي تجسيد حقيقي لرمزية الخلود، وهي تكريس لتلك اللحظة المرجوّة، إذ ينتصر فيها الحق ويمحى الظلم.
إنّ الكوارث والحروب مثل الحياة، لا أحد يخرج منها من دون إفلات من الذنب. فهل تنجب الأمهات أطفالاً بمستقبل مظلم؟ نعم ولكن هذا لا يجعلهن جناة، لأن الحرب تفرض نسقاً جديداً، ومعايير خاصة للخير وللشر، ما يعني أنه من المستحيل تعميم القواعد والأحكام وفقاً لنظريات من يعيش حياة عادية، فكيف باللواتي يعشن حياةً مرفّهة؟ تعرف الأمهات الفلسطينيات أنّ البطولة الفردية تتكرس بالفداء والاستشهاد، فيذهبن نحو تخليد البطولة، وتخليد الأعزاء الذين استُشهدوا، عن طريق الإنجاب. إنه الحق في المحاولات المستمرة لخلق الحياة من رحم الموت، والبناء الدائم من ركام الهدم. وكانت إرادتهن كافية لبناء حياة جديدة من العدم. أما نحن، البعيدات اللواتي ينصحوننا بكيفية التعامل مع فاجعة الموت قتلاً وفاجعة الإبادة، فنحن في منطقةٍ آمنة ولا نميز قيمة العطاء. لا ندرك التفاصيل الصغيرة التي تثبت أننا نعيش مع بعضنا ومن أجل بعضنا، لكن الأم الفلسطينية جعلتنا ندرك ذلك، ونبهتنا أنه في إمكاننا تأسيس حياة جديدة حتى ولو كانت من رحم الجحيم.

الأمل الممكن
كنت قد شاهدت مقطعاً قصيراً لطفل يرقص فرحاً على طبل وسط التصفيق، وهو يقف على طاولة متبقية من حطام أحد المنازل في الشارع، بعد واحدة من الغارات الإسرائيلية على غزة، ورأيت فيه معنى واحداً. هذا الطفل هو الممكن مقابل المستحيل.
لا نقدر أن نتخيل ما مصير الأطفال الفلسطينيين في المستقبل. ولكن نقدر أن نرى في طوفان الأقصى الذي أتى بعد محاولات لا نهائية من المقاومة المستمرة أنهم يكبرون على الكفاح والأمل. هم أبناء البطولة، وأمهاتهم هم وقود الحياة، والماء البارد أمام نار الفناء التي تشعلها الحرب. كان يمكن أن يكفّوا عن المحاولة منذ زمنٍ، والرضوخ لواقع الاستعمار، ولكنهم رفضوا الإذعان، لأنهم إذا تخلّوا عن المقاومة فلن يكون للحق من معنى. بالسكوت عن الحق يغيم الضباب، ولن تتوقف ظلمته في ابتلاع النور وسلبه من أعين أطفال فلسطين فقط إنما سيبتلع النور من أعين أطفال العالم كله لأن الطغيان نار لا تشبع أبداً.