على عكس النادي الرياضي، المكان الذي يستجيب لرغبة جسد زائره فيستقبله برحابةٍ ويزوّده بـ«الإهاق» الذي يطلبه/ يحتاجه، يندرج المطبخ في مساحة «جغرافيا القهر» ويصبو إلى أن يكون، في الكثير من الأحيان، زنزانة محكوم على القابعة في داخله بالأعمال الشاقة. إذا كان النادي الرياضي هو المكان الذي نقصده طوعياً، فنسلم أنفسنا لآلاته لأننا نبتغي التعب فيه بملء إرادتنا، بالإضافة إلى العلاقة الحميمة التي تربطنا مع الرياضة بالمجمل، إلا أن المطبخ بما شكلته أنساق سلطوية مدججة بحجج ثقافية-اجتماعية، بات المكان الذي يحصر المرأة داخله، ويوظّفها في مداراته في عملٍ غالباً ما يتّسم بطابع القهر والاستغلال. في المطبخ، يخضع العمل لمبدأ الإرغام والسخرة وبمجانية، كما يحكم الطوق على الجسد، ذلك في التحكم بحركاته وإجباره على «أدائية» معيّنة: العمل وقوفاً، التركيز المصبوب في اتجاهات عديدة وغيرها الكثير. ولد من رحم هذا الانهماك المفرط والجهد المضني في «جغرافيا القهر» تلك، «ستيريوتايب» جديد، قوامه ثنائية المرأة والمطبخ.
تصميم فرانسوا الدويهي

إذا ما تتبعنا خيط العبارات التي تنبثق من واقعنا المعاش، يمكننا رصد هذا الـ«ستيريوتياب» وتلقف الصورة المتطابقة، والتي صُنعت كواحدة من التركيبات الاجتماعية، ما بين المرأة والمطبخ، لذا فإننا نجد أن عبارة المرأة باتت تعني المطبخ، والمطبخ بدوره يدلّ على المرأة. ما هو غير مفاجئ، يكمن في إضفاء طابع التقريظ والتحقير لعملية الطبخ بحدّ ذاتها، لتكون المرأة في هذه الحالة، أي «طبّاخة» هذه الممارسة (الطبخ) ومؤديتها، متهمّة بأنها الإنسان التافه قليل الشأن. إن العبارة الأكثر شهرة، والتي تتوجه إلى المرأة بغية إسكاتها عن أي نقاش، أو حتى لإظهار «قيمتها» (المرأة) عند قائلها، تتمثل في التالي: «إسكتي، على المطبخ!». هي جملة قصيرة تأتي بصيغة الأمر، تحمل بطياتها إقصاءً عنيفاً لمعنى المرأة ككائن وللمطبخ كحيّز، حتى بتنا نشعر بأن المطبخ يُشكل مساحة تهديد للرجل نفسه بحال أراد الانشغال فيه أو تأدية أي دوّرٍ في تلك الفسحة. هكذا نسمع، والمرويّات الشفهية التي نعلم أنها أساطير، بيد أنها تبقى دليلاً ساطعاً على القناعة العامة، عبارات تقذف يميناً وشمالاً، على شاكلة «الرجل الحقيقي لا يطبخ». والعبارات هاته مغرضة، تأتي كنوع من الإهانة، كشتيمة خفيفة يقصد من ورائها الاستهزاء في الرجل الذي يشتغل في المطبخ، لأن انشغاله هناك يعني، تلقائياً، تأديته لعمل نسائي ما يُعتبر مسّاً في «رجولته».
لكن وراء الجهد والتعب وأجواء القنوط هذه، تختبئ حقيقة لامعة، مفادها أن المطبخ هو فسحة خلق، فضاء مميز ساحر، فيه تُعجن العلاقات وتحلو الأحاديث وتُخبز الذكريات.
يشكل المطبخ العلاقات الإنسانية، كما أنه يملأ وعاء الوعي ويجعله مستعداً لخوض غمار العيش. لنا مع أبطال المسلسل الكرتوني «Powerpuff Girls» مثالاً على أهمية المطبخ، بوصفه فضاءً خيّراً وجميلاً. في «Powerpuff Girls»، يقرر دكتور «يورانيوم» أن يضيف وصفته السحرية، أن يضع المكوّن «إكس» إلى جانب كل من السكر والبهار، ليخلق ثلاث فراشات سيصبحن أعمدة البيت وحراسه بل مشيّدو المدينة بأسرها. إذا ما استعنّا بالمكوّن «إكس»، أي بالخلطة السحرية التابعة للدكتور «يورانيوم»، فذلك سيساهم في تغيير نظرتنا إلى المطبخ كما أنه سيحطّم الـ«ستيريوتايب» الذائع، ويحوّل المطبخ عندها من مولّد للتعب الناجم عن الإرغام والإجبار والقمع، إلى جهدٍ يصب في تفسير العالم ويساعد في تغييره. عندها سندرك، خواص المطبخ ومزاياه، إننا نتكلم عن: الحب ،الحوار، الذاكرة.

المطبخ كصانع للحب:
إن تحضير الطعام وطهوه عملية تشبه السحر إلى حدٍّ بعيد، وتأخذ من المطبخ مركزها. يبدأ طهو الطعام عبر تحسس المكوّنات، ومن ثم شمّها، الشروع في دمجها، وخلطها مع بعضها لتتحول لاحقاً، بعد أن تشوّى أو تُقلى أو تُسلق إلى وجبة جاهزة. من الممكن أن تكون هذه الوجبة قادمة من التراث الشعبي، أو تجربة جديدة يصح القول بها على أنها اختراع شخصي جديد. يبقى أن الطعام عندما ينضج وينجز، يتعدى بمعناه الخالص وظيفة التغذية التي يؤديها للجسد، ليدنو من كونه دلالة أعمق ذات قيمة عاطفية وثقافية في آن. يمكن الكشف عن هذه الدلالة عندما نرى الطعام مقدّماً في حفلات الزفاف، بعد النجاح، في استقبال المولود، أو حتى في زيارة مريض. صناعة الطعام إذن، هي بشكلٍ من الأشكال، امتداد للحب، إن لم تكن أيضاً صناعة له. وإذا كان تقديم الطعام هو دليل عن الحب، يبقى أن إنجاز الطعام أي تحضيره وصنعه يشبه عملية الإنجاب. إن تعمقنا في البحث قليلاً، نجد أن أفلاطون قد عنون محاورته الثانية، وهي إحدى المحاورات الفلسفية التي اشتهرت بفلسفته عن الحب ومدحه، بـ«المأدبة» حيث رأى أن الطبخ يخضع لمبدأ الإنجاب. والإنجاب هذا يُعد أغنى أشكال الوجود لأنه وبحسب أفلاطون، هو «إنجاب الجمال». من هذا المنطلق تحديداً، يمكننا فهم السبب الكامن وراء الانحياز الذي يبديه الشخص تجاه الأطباق التي يأكلها في منزله، والاكتفاء بها بدون رغبة منه في تجريب الأطباق نفسها في أماكن أخرى. كما أننا غالباً ما نجد أن نتيجة المقارنة التي تجري بين وجبتين، واحدة منزلية التحضير وأخرى غريبة الصنع، تميل إلى انتقاء الأولى بدلاً عن الثانية، لأن من يأكل هو على علاقة وطيدة مع مطبخه، مع القائم على هذا المطبخ، وهو منحاز لمطبخه لأنه منحاز لحبّه. يغدو المطبخ صانعاً للحب، ومصنعاً له.

المطبخ كمساحة للحوار:
عدا عن الانتماء إلى العائلة، والمحافظة عليها وحتى الموت فداءً لها، تصُب معظم أفلام «الغانغسترز» التركيز على طاولة الطعام باعتبارها مرآة تعكس مزايا الأفراد الجالسين عليها من ناحية، وعلى وظيفة هذه الطاولة في كونها فضاءً عاماً يفسح المجال للحوار والنقاش من ناحيةٍ أخرى. في فيلم «غوودفيلاس» تقع جريمة قتل في حانة سببها إشكال حدث بين جو بيتشي وغريمه، واحد من أفراد العصابات، بعد أن تنمر الأخير عليه. قتل جو بيتشي الرجل واستطاع مع أصدقائه إخفاء الجثة في حفرة كبيرة داخل التراب وطمرها هناك. بعد الانتهاء من العملية، يتوجّه الأصدقاء الثلاثة، كل من راي لايوتا، روبيرت دي نيرو، وجو بيتشي إلى منزل الأخير، ويصادفون والدته مستيقظة. تصرّ الوالدة على أن يبقوا قليلاً، عرضت عليهم تحضير الطعام، فوافقوا على البقاء. جلسوا جميعهم في المطبخ وراحوا يتحدثون في أمورٍ حياتية. راحوا يعبثون، يلهون، ويجاوبون الوالدة على أسئلتها البريئة، الفضولية التي تدور حول ابنها (جو بيتشي) المتعلقة بأوضاعه العاطفية، وكأن شيئاً لم يكن، لا جريمة في البال أو حدثت في الماضي.
يمكننا رصد مشهد الحوار بين الأفراد في المطبخ على طاولة الطعام في أحد أهم أفلام السينما على مرّ التاريخ أي «غودفازر». ال باتشينو يتحدث مع إخوته حول كيفية الانتقام لأبيه، ويتباحث معهم حول الرد الأنسب على عملية القتل التي استهدفت العراب. الأمثلة في هذه الحالة كثيرة ويكاد ذكرها لا ينتهي، بيد أنها تؤكد بمجملها على أن المطبخ هو فضاء عام، يُمأسس للحوار ويؤسسه. وإذا ما انتقلنا من عالم الأفلام إلى المُعاش، أي واقعنا الحياتيّ، ننتبه إلى أننا، بمعظمنا، لنا نصيب وافر من الانخراط في هذا الفضاء العام منذ نعومة أظافرنا. فقد تجسدت العادة أنه بمجرد عودتنا من المدرسة إلى المنزل، نجلس في المطبخ على طاولة الطعام، وسرعان ما نبدأ بالثرثرة والإخبار عن أحوالنا، وهمومنا، وهواجسنا. عما صادفناه واختبرناه، وعمّ نودّ فعله أو كنّا نود فعله. إن المطبخ يُعد بمثابة «قلب» المنزل. هو محرك العلاقات التي تجري بداخله ونبضها. إن المطبخ هو المكان التي تجري فيه أكثر لقاءات العائلة. طقوس بسيطة متمثلة في الجلوس معاً على طاولة المطبخ تمنحنا فرصة للتواصل والتفاعل. تساعدنا اللغة في المطبخ على الانصهار مع «الآخر»، بحيث نشعر وكأننا نخوض حياة كاملة مع ذلك الذي نشاركه أحاديثنا ونشاطره الأحداث التي عشناها، وحتى لو أن الأحداث التي عشناها قد خضناها منفردين عنه لكن يكفي أننا نشاركه إياها في تلك الفسحة التي تصنع الحب وتؤمن فضاءً عاماً يسمح بالإنصات والتكلم.

المطبخ كتكثيف لذاكرة الماضي:
كأن المطبخ لا تحدّه الخطوط الجغرافية. يبدو لنا المطبخ أكبر بكثير مما يبدو عليه. لا تنتهي حدود المطبخ عند عتبة الحوارات والنقاشات، ولا في إضفاء الحب ووهبه. للمطبخ طعم الذاكرة، وفيه أيضاً رائحة المستقبل. يمتد تأثير المطبخ ليطاول أفكارنا الصامتة حول هذا المكان وتفضيله على غيره من أماكن في أرجاء المنزل. هناك ذاكرة للجسد تجاه المطبخ تكوّنها سلسلة من التفاعلات بين الحواس، في اللمس وإيقاع الحركة على وجه الخصوص. هناك أيضاً ذاكرة للأشياء، أو على الأقل هذا ما نخاله. عندما نرى صفار الجمادات، فإننا نعتقد أنها شاهدة على تغيرات المكان وعلى تغير عمره، نشعر بأن الجمادات خزان للذكريات، فنخال بأن صفارها يعني تراكم قصصها الخاصة، أي قصصنا، والتي تودّ، لو كان لها القدرة، أن ترويها لنا.
يرتقي الواحد منا في جغرافيا المطبخ ويتخطى ذاته. يحدث ذلك بعد خوض أفعال تكرارية مثل غسل الأواني، تنظيف الطاولة، ترتيب الأغراض... أفعال تجعلنا نصل، بفضل تكرارها، إلى مرحلة من فن السيطرة على الذهن. هكذا، نستطيع بفضل هذه الميزة إلى القبض على تدفق الصور أو منعها، على تغييرها من خلال الإغفال عنها أو التركيز عليها فحفظها، وهو ما يعرف في علم النفس بـ«التأمل». التعب هنا مثلاً لا يقاس بجدواه أكثر بل باللذة التي يمنحها، وبـ«التعالي» الذي يوفره بوصفه، أي التعب، ممارسة لا بدّ منها للارتقاء.
يبقى أن همنا الأساسي يصبّ في استحواذ المطبخ على معجمه الخاص، ذلك من خلال عناصر تمتزج وتلتحم به، كالأواني والمياه، لتشكل هذه العناصر، باندماجها معه، صورةً واحدة. هكذا، تصبح صورة المياه أو الأواني، هي نفسها صورة المطبخ، وليست صوراً منه فحسب. لكن ماذا عن ذكرياتنا نحن، تلك التي نعرّفها بالذاكرة الحسية؟ لقد صبّ العالم الأنثروبولوجي جون هولتزمان اهتمامه على علاقة الطعام بالذاكرة، أو الانتقال إلى الطفولة من خلال التأثر والتأثير وهو ما يعرف بـ«اللحظة البروستية». هذه اللحظة تتجسد في طعم ما أو رائحة ما، فتردّنا أو تحيلنا من جديد إلى الفترة الزمنية الأولى والمكان الأصلي الذي جربنا فيه هذا الطعم أو شممنا تلك الرائحة. ومصطلح «اللحظة البروستية» مستقى من الروائي الفرنسي مارسيل بروست، الأخير، أغرق قطعة بسكويت في فنجان قهوته قبل أن يضعها في فمه ليأكلها، وعندها، طافت على وعيه ذكرى المرة الأولى التي تذوّق بها البسكويت. شعر بروست، عندما تذوّق طعم البسكويت الممزوج بالقهوة، أنه عاد إلى طفولته بفضل الطعم والمذاق، فتفتّحت عنده عوالم جديدة، تكرست في أدبه، الذي تميز بالوصف الشديد المدهش. وعلى طريقة بروست نفسها، تتشكل الذاكرة في المطبخ مثلما يشكل المطبخ الذاكرة. فإذا ما كانت الوجبات التي نأكلها في حاضرنا الآن تذكرنا بزمن طفولتنا، وفي عالم الطفولة، فلنا مع الأثاث والأغراض التي يحتويها المطبخ، الأغراض الماثلة فيه، ما يؤكد على تولي المطبخ مهمة الحفظ والتأمين على الأشياء. وكأن طبيعة المطبخ تفرض عليه أن يكون أميناً على ماضينا، أو أن يكون أرشيف الذاكرة، يحفظ أعمارنا ولحظاتنا، أحاديثنا ومشاعرنا.