«الحداد المكنون داخل النفس ليس له أي علامات. إنه اكتمال الإبطان المطلق. ومع ذلك فإن جميع المجتمعات الحكيمة قد أوصت بإظهار الحداد وقوننته. المزعج في مجتمعنا أنه ينكر الحداد» رولان بارت- يوميات الحداد
تخيل أنّك تسير ليلاً بعد موت أو فقدان من تحب. مع كل خطوة تمشيها تشعر بأن الضوء يخفت والظلام يشتدّ. سيخبرك صوت خفيض يهمس داخل أذنيك أنك كلما أسرعت في المشي، ازدادت نسبة نجاتك لأن هناك مخرجاً مشعاً يجب أن تعبره، وهو المخرج الوحيد الصالح للهروب. ستأخذ نصيحة الصوت على محمل الجدّ، ستسارع في خطواتك، لكنك عندما تصل، ستجد أن باب ذلك المخرج موصد، وأنك فقدت مفاتيح الأقفال أثناء وصولك.
إن أردت النجاة، يجب عليك إعادة البحث من جديد. عندها، ستبحث عن المخرج ببطء، وستنتبه أن الطريق إليه تشترط توخي البطء وليس تبنّي السرعة الجامحة كما أخبروك.

(إدوارد مونخ - «بورتريه الحداد»)

أن تكون في حالة الحداد، فهذا أشبه بالمشي وسط «الظلام الضريحي». والظلام الضريحي مختلف عن ظلمة القبر، لأن القبور لا ترحب بالضوء وليس عندها شيء لتعرضه غير الدود الذي ينهش الجثث، من ثم فإن لمفردة «الضريح» معنى آخر في اللغة غير المعنى الذائع الصيت الذي يساويها بالقبر؛ الضريح يعني «الشقّ في قلب القبر». ولأنه شق ففي استطاعته استقبال الضوء أو بعثه، وبالتالي، يمكننا أن نرى من خلاله، وأن نستكشف، وأن نغوص. من «الظلام الضريحي» إذاً، تنبثق بصيرة جديدة، نرى من خلالها عالماً لم نعتده، عالماً أبوابه مفتوحة مشرّعة على الرؤية. هو إشعاعٌ يخرق عتمة القبر، تلك العتمة التي تسعى المجتمعات المعاصرة إلى ترويجها وتكريسها وإضفائها على يوميات حياتنا المعيشة.
في المجتمعات المعاصرة اليوم، باتت الحالات الإنسانية برمّتها أسيرة الرأسمالية. إن شعوراً مثل الحداد باعتباره موقفاً غارقاً في الوجوم يضحى شعوراً هشاً، فاقداً لأصالته، عندما تحتويه هذه المجتمعات وعندما تبدي نصائحها و«وصفاتها الطبيّة» على المصاب به. عندما يخضع الحداد إلى سلطة السرعة يتخلص عندها من مكنونه، من «حداده»، فالحداد لا يجتمع مع أي سلطةٍ من شأنها إرغامه أو احتواؤه. تحفّز المجتمعات الرأسمالية في خطابها تبنّي السرعة وممارستها. هي تُبشّر بالتخلص الرهيب من الجرح الذي يحتاج إلى وقتٍ ومساحةٍ للالتئام. يخبرنا خطابها بحتمية النجاة، وبضرورة التجاوز حتى أصبحنا نؤمن بتلك المقولات ونردّدها، فنزعم مثلاً أن الزمن لم يعد مثلما كان، وأن راهننا لا يسمح لنا بالتقاط أنفاسنا. على هذا النحو، أصبح «التجاوز» أي التعالي عن الحالة بغية تخطيها، و«النجاة» بواقعنا عوضاً عن الغرق في بؤر العتمة والكآبة، ينضويان تحت سُلطة «السرعة»، مثلما أصبحنا نحن أيضاً، بمساراتنا وقراراتنا، تحت سيطرة هذه السرعة. وعلى شاكلة أن الرأسمالية المعاصرة تأسر الحالات الإنسانية برمّتها، فهي أيضاً تقبض على مخيال قاطني عصرها، وعلى أفعالهم، إذ ها هي ترسم لنا الطريق، تزوّدنا بالنصائح، وتحدد لنا إيقاع العيش، وهو إيقاع سريع مضنٍ.
إن سُلطة السرعة تشترط أن يكون التعامل مع الحالات الإنسانية عابراً، قائماً على القطيعة التّامة. أن يكون النظر مُصوّباً دائماً إلى الأمام، من دون أخذ مهلة قصيرة أو التوقف لبرهة من أجل التفكير، وكأنّ الزمن تحكمه ممحاةٌ. فأبرز ما تعترضه الرأسمالية ومجتماتنا المعاصرة، هو الحالات التي باستطاعتها هز الوجدان البشري، وخلخلة المسار المرسوم سلفاً. لذلك فالرأسمالية تعمد إلى قتل الحداد وطمسه، وللوصول إلى غايتها، فهي تعمد أولاً إلى تشويهه. من هذا المنطلق، تصوّر المجتمعات المعاصرة الحداد على أنه دلالة عن الضعف، فيما التجاوز والنجاة يحتاجان إلى شجاعة وقرار. صحيح أن كليهما يحتاج إلى شجاعة وإقرار، لكن نوعية الخطاب الذي يتسرب إلينا تجعل من الحداد مبتوراً، تجرده من معناه، تجعلنا إن أذعنا لنصائحها وآرائها نخرج من الحداد بالحالة نفسها، التي تُماثل الحالة التي دخلنا إليه فيها. فأي محاولة لإظهار الحداد، إن كان بذرف دمعةٍ أو بأخذ يوم إجازة من العمل توصم صاحبها بالجبن والضعف. لكن الحداد يحتاج إلى وقت، والوقت عدو سُلطة السرعة، ما يعني أن الحداد إن بلغ رتبته وأخذ حيّزه، فسيكون وقفة ضد الرأسمالية التي لا تريد أن يكون لحزننا ورثائنا مكان.
عندما نعترف بالحداد وبأهمية التعامل معه، فسنعرف عندها كيفية الخروج من المأزق الذي يكبّلنا، كما أننا سنقاوم سلطة السرعة المفروضة علينا، وهذا يعني الخروج من أصفاد الرأسمالية وإيجاد المخرج الحقيقي لا ذلك المزيّف. فالحداد بما هو بصيرة، يعمد إلى تحويل ظلمة القبر إلى «ظلمة الضريح»، ما يسمح بولادة ذات جديدة. إن الحداد هو فرصة لاكتشاف ما فُقد، هو إعادة خلق للذات من جديد. فالفقدان يولّد خللاً فينا، وهذا العطب أو الخلل لا تشفيه العجلة إنما تساهم في تعزيزه، ذلك في جعلنا نفقد ذواتنا أيضاً.
تكمن الأزمة الحقيقية لخطابات الرأسمالية المتعلقة بالحداد، والتي تدعو بزخمٍ وحماسةٍ إلى مفاهيم التجاوز والنجاة لأجل استمرار المرء في الإنتاج والاستهلاك، في أنها تطوّع الحداد قبل أن تتقصّد نفيه بغية اضمحلاله. تصور هذه الخطابات الحداد كثورة محبطة يقودها المرء على نفسه، في جعله يبدو ضعيفاً وهشاً وغير صالح لمواجهة قساوة «العالم». بيد أن حقيقة الحداد تكمن في النقيض من ذلك، ووظيفته «التطهيرية» أولاً، تؤهل للمخاض الثوري.
فالحداد، في أرقى أشكاله، هو فعل ثوري. هو إيذان لبدء ثورة ناجحة لأنه وقفة تفكير هادئة يمارسها المرء تسمح له بفهم الظروف وتحسّس المعاني. هو غوص داخلي عميق يبتغي القطيعة الحقيقية الهادئة، وليس السريعة العابرة مع ذاك «الذي مضى». فالتخلص من الماضي يحتاج إلى المصالحة معه، من ثم تأبينه، أو كما قال فرويد، بما معناه، إن الميت لا يموت قبل أن نعزّي به.
تولد الثورة من هذا العزاء تحديداً، ليس لأن الحداد يحتاج إلى وقتٍ ما ليقف سداً منيعاً أمام الرأسمالية الطامحة بامتلاك التاريخ بأسره وتقسيم الوقت حسب أهواء مصانعها فحسب، بل كذلك لأنه يفسح المجال أمام الرؤية. فالحداد بما هو شقّ في القبر، فهو إذاً ضوء يشعّ وسط قتامة هذا المشهد، إشعاعٌ سرّه يكمن في التشبث بالذات، والعمل على إحيائها، والتورط في التفكير عوضاً عن الغرق في سباق وجودي سريعٍ مع ما تنتجه الآلة، وما يستهلكه المستهلك الجشع.
المثير في ما كتبه بارت حول الحداد أنه قد تتغير مفاهيمه بمرور الزمن، لأن كل فقدان يؤثر على محيطه ويغيّره، وقد يبدّله تماماً. ما تحاول رأسمالية المجتمعات المعاصرة فعله هو «إخصاء» الحداد، وجعله أمراً عرضياً ممكناً، مروّجةً لذلك تعليماتٍ لمخارج غير آمنة. مخارج سوف نجد في نهاية المطاف أن أبوابها موصدة، وحتى لو فُتحت، فسنجد أنها تخلّف وراءها ظلاماً داكناً. وفي ذلك إجهاض للثورة، فالتجاوز والنجاة من حدثٍ مأساويٍّ على طريقة سباق الـ«فورمولا وان» ما هما سوى عنف ممارس على الذات لكي تبقى قابعة في دوّامة معتمة لا أفق فيها ولا عبور. علينا فهم الحداد كطريقٍ لثورة ناجحة، على أن كل ثورة تحتاج إلى زمن لكي تتّضح آثارها.