أكتب كلمة «باخ»، أي اسم المؤلف والملحن الموسيقيّ الألماني الشهير مثلاً على يوتيوب وذلك قبل توجّهي إلى المنبع مباشرة، حيث تطبيقات ومواقع الموسيقى موجهة ومجهّزة بحسب الاحتياجات الشبيهةِ بـ «بيروقراطية نفسية» مثل «أنغامي». تكتب باخ، فيعطيك الخيارات التالية بالإنكليزية: «أفضل مؤلفات باخ»، «أفضل موسيقى استرخاء كلاسيكية»، «أفضل موسيقى للدراسة»، «موسيقى كلاسيكية للضغط وألم الرأس» ليتساءل واحدنا بتهكّم في هذه الحالة، طيب: هل تأثير باخ يضاهي حبّة بنادول يعني؟
أريد إذن، موسيقى كلاسيكية لكتابة مقال عن الموسيقى المعلّبة بحسب الاحتياجات، أو نكتب في خانة البحث: موسيقى لتدليك العظام، موسيقى للمصابين بعمى الألوان، موسيقى لتحسين مزاج من أفلس ورهن بيته، عقله أو مؤخرته. لسنا في هذا الصدد نستهين بقدرة الموسيقى بالطبع في المجالات الطبيّة والعصبية، فقد أثبتت العلاجات المتقدّمة في هذا المجال، قدرة الموسيقى التحفيزيّة على تحسين أداء العديد من مرضى الحَبسة الكلاميّة على أنواعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مرضى الألزهايمر وباركينسون، ويمكن لمن يودّ التوسّع في هذا الموضوع أن يعود إلى كتاب طبيب الأعصاب أوليفر ساكس في كتابه «نزعة إلى الموسيقى». أو حتى العكس، أي التأثير السلبي للموسيقى حيث يمكن استعمالها للتعذيب مثلما فعل النازيوّن في معسكراتهم: وسيلة لتثبيت الألم في القشرة الدماغية لذاكرة الضحايا وهو أمر قد برز بوضوح في مشاهد فيلم ستانلي كيوبرك Clockwork Orange.
بعد هذا التساؤل الجانبي، فإن الفرضيّة الأساسية التي تطرأ على البال، هي أن الموسيقى والأغاني عامة، إثر عولمتها ضمن عملية عولمة الثقافة بشكل عام، صنعت فرداً يقفز فوق الدواعي الحقيقيّة لتأليف عمل موسيقيّ وفنّي عامّةً، مانحة إياه القدرة على استعمال ما يمكن تسميته التراث الإنساني من قديمٍ و/ أو جديدٍ في أشكال قد تعارض بل وتشوّه غاية المؤلف نفسها من عمله. فتُطرح في هذا المجال قضية «حق التصرف» وتوضع موضع استفهام ونقد، إن كان في تقفّي مصدر الحثّ على هذا التسطيح والتشويه وإعادة إنتاج الأعمال الفنيّة الموسيقية في أشكال باهتة، أو في نقد هذه الأنا التي تستعين بوفرة المصادر وسرعة الوصول متغلبة في ذلك على الجودة والقيمة الإنسانية الفعلية لأي عمل فني ليتّسم إذّاك بالعالمية.
وقد يستعيد الباحث هنا النقاش الدائر حول اختلاف كلمتَي العولمة والعالمية. فيتضح أن الفرق الرئيسي بينهما، بعيداً عن تلك النقاشات، هو أن العولمة هي التصرف الغائي والقصدي بالعالمي، بهدف تمييعه فإعادة تشكيله وعرضه، ثم زجّه في عملية العرض والتسويق سعياً وراء الاستهلاك السريع بطبعه وبالتالي الربح. إن سعي الإنسان المعاصر أو الإنسان المعولم إن صحّ التعبير فرضاً، وتهافته إلى تحقيق الربح دوناً عن غايات أخرى، يحوّل كلّ ما هو فنّي أو بشكل أدق، كلّ ما هو غير ربحيّ بطبيعته، إلى وسيلةٍ للاستهلاك في أنظمةِ إنتاج قائمة على لا أخلاقيات السوق. فالغاية هنا تبرر الوسيلة، ومن أجل هذا، كان لا بدّ من «تخليص» الأعمال الفنّية المحفوظة، من تركيبتها وجوهرها اللذين لا يتناسبان مع العرض السريع والإعلان التسويقي المباشر والسطحي، من خلال تشويه العمل وسلب المؤلف من رؤيته الجمالية والحياتيّة المتراكمة عبر الخبرة والتجربة والتي هي قاعدة عمله في الأساس.
يطلّ الإنسان المعولم علينا إذّاك، لا هو بالمبدع ولا هو بالتقني، ولا هو بالباحث المتوخّي إضافة في ميادين الجمالية أو الإبداع بميزته الطاغية التي تُدعى: الطفيليّة. هذا حكم لا ينتزع منه صفة الدهاء، لكنه قائم على النتيجة والأثر الذي يتركه على نفسه وعلى غيره من جمهور المتلقّين وأصحاب الأعمال الفنية القيّمة أنفسهم. فالإنسان المعولم، أخذ من غيره بسمة فردية، ويفعل ما يحلو له متماهياً مع حاجات السوق.
من هنا تنشق عن سمته الأساسية، سمة أخرى لاحقاً -وهي سِمة سلبية للدقة والإنصاف- وتتعدى نطاقه الفردي، فتُصبح لوثة منتشرة مثل جائحة ملعونة، تختزل الدوافع لما تبغيه حصرياً، لتحوّل من خلال أثرها على النتاج، نتاجاً آخر قائماً بحد ذاته، من خلال إعادة فبركتهِ أو بتره من سياقه الأصلي. وفي نطاق أوسع، يتمأسس هذا الفعل وهذه الممارسة لتصبح نهجاً عملياً فتتبنّاه مؤسسات وتدعمه شركات إنتاج كبرى لتحقق أرباحاً طائلة على حساب الإبداع الفعليّ.
فواحدة من العناوين التي ذكرناها في المقطع الأول، عن باخ تحديداً، كفيلة لجذب مستمعين يبغون البحث عن «حالة»، أو يريدون الغوص في «حالةٍ» كما هي معنونة سلفاً، فيسلمون أنفسهم طوعاً كرمى المشاعر الموعودة. التلاعب في العنوان هو تضليل متعمّد للسياق، يخلق اختلالاً في مناخ العمل الموسيقي وطابعه، خصوصاً أنه بعيد عن التأويل أو الاختصار الوصفي. وبالتالي، فالعناوين المبتكرة الذي اعتمدها الإنسان المعولم، ليست سوى تشويه لقصدية المؤلف، وطرح إبداعه أرضاً على حساب المنفعة الخاصة؛ الربح السريع الذي سيجنيه من خلال تزايد عدد المستمعين، بالأحرى الزائرين، وهم للدقة أشبه بسيّاح المعابد الذين يفتشون عن الراحة النفسية أو حالة سامية مرجوّة من دون الأخذ في الاعتبار حقيقة هذه الأماكن وخاصيّتها بل جلّ اهتمامهم ينصبّ على زخرفة الطابع والصيت الذائع.
وفي المؤسسات الطامحة بتعزيز عدد مستمعيها، ما يهمّها فحسب هو تكاثر عدد الأرقام فتلجأ إلى الاستعانة بالطريقة الترويجية الرائجة، أقصد الطفيلية نفسها للإنسان المعولم، مع إضافات عدّة، منها الإعلاني المباشر وآخر له علاقة بالسيطرة والتسيير، وسنذكرها تباعاً.
نأخذ المؤسسة العربية الأشهر في التطبيقات الموسيقيّة وفخر الصناعة الوطنية «أنغامي». فإذا أخذنا التطبيق الأخير كنموذج على ذلك، وهو نموذج قائم على الاستفزاز والمضايقة السمعية في كيفيّة جذبه للمشترك أثناء استعماله وبحثه عن الأغاني والموسيقى جذباً للمشترك لكي يحدّث التطبيق، صارفاً على ذلك المال والوقت والأهم على خيارات الأغاني التي دفع عليها القيّمون حقوق النشر بدافع الترويج، فإن مزاج المشترك الموسيقي يخضع لنوع من التوجيه المتعمد، ولو بنسبة مبطّنة. ولأن البرنامج قائم على شراء حقوق الأغاني المستمدّة من شركات الإنتاج الكبرى: روتانا، ميلودي، يونيفرسال... فإن الصدمة السّمعيّة المتعَمَّدة غالباً تصيب المشترك عبر الانقطاع المفاجئ وقتَ تشغيله أو تنقّله من أغنية إلى أخرى. يحدث ذلك بالإعلانات ذات الإيقاع الصاخب والطبقة الصوتيّة العالية التي تعجز عن إزاحتها حتّى انتهاء الإعلان. تلاحظ حينئذ أن أكثر الأغاني استماعاً هي لمطربين متعاقدين مع شركات الإنتاج الضخمة تلك فحسب، فالراغب باستبيان دقيق عن الذوق الموسيقي للأفراد العرب من خلال التطبيق، لن يحصل على أكثر من استبيان لأكثر مما تفرضه شركات الإنتاج من ذوقها الموسيقي، بالتعاقد مع التطبيق وتسهيلاته.
«- الشعر ليس ملك من يكتبه، وإنما ملك من يستخدمه.
-تعجبني جداً هذه العبارة الديموقراطيّة، ولكننا لن نصل بالديموقراطية إلى حد التصويت ضمن الأسرة عمّن هو الأب»
هكذا يتحاور في رواية سكارميتا «ساعي بريد نيرودا» ساعي البريد والشاعر التشيلي حول استخدام الأول لأشعار الثاني لغاية عاطفية. إن أخذنا في الحسبان الردّ باعتباره حجّةً صحيحة فيما يخصّ الشعر الحامل لمعاني قد تنطبق على مناسبات معينة، ألا ينطبق هذا الأمر فعليّاً على الموسيقى، هذا الفن الأقرب إلى الفن الإيحائي منه إلى الفن التعبيري مهما وُضِعَ في سياقات اختارها المؤلف أو فرضتها المؤسسات لاحقاً؟
إن كلّ مشكلة في المعنى تعود في أساسها إلى مشكلة في التصوّر والتلقّي بالدرجة أولى. إن الابتذال السّمعي الحاصل ومن ثم طلبه بتزايد، وتشويه المؤَلِفِ والمُؤَلَّفِ سويّاً، يعود إلى جائحة تصيبنا جميعنا، أفراداً وجماعات من أفراد وجماعات. فيروس في هذه القرية الصغيرة، حيث باسم الحرية يعمد آخرنا إلى إلغائنا، أو في أفضل الأحوال إلى تشويهنا، لمقصدٍ معيّن ينفعه وحده.