للمكان اعتبارات أساسية بالنسبة إلى السلطة، لأنها أولاً تحقق نفسها في حيّزه، ولأنها أيضاً تمارس وظيفتها فيه. يحدُث أن تسخّر السلطة حدود المكان فترخي قوّتها وتبسط طغيانها عليه لتجعله مركزاً لها، له ارتداداته على أمكنةٍ أخرى وتأثيراته على الأشخاص. أحد الأمثلة التي يمكن ذكرها واعتمادها نموذجاً للتدليل على النشاط السلطوي ضمن فضاءات المكان هو الحاجز. يُنظر إلى الحاجز العسكري، والذي يزعم أن علة وجوده هي التحقق من المدنيين للتأكيد من أنهم لا يشكلون أي تهديدٍ، على أنه خطوة سياسية مفادها ضرورة الحفاظ على السلامة العامة، ليصبح الحاجز بذلك، بمثابة «الحارس\ الحامي العام». لكنّ حقيقة الحاجز بعيدة عن تلك الحجة الواهنة، ولا يمكن فهمها سياسياً لكون السياسة طرفاً مشاركاً في تأسيسه. ليس الحاجز سوى الشكل المادي للسلطة التي استباحت المكان المجرّد وحوّلته إلى ثكنة ترمز إلى القوّة، وتمهّد للتفرقة، وتشرّع القتل.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

إذا أخذنا مسافة بعيدة بعض الشيء ونظرنا إلى الحاجز لفهم ماهيته، أمكننا ذلك من استشفاف طبيعة العنف الذي ينطوي عليه. فهو أولاً، يطابق ما عرّفه ميشيل فوكو بالـ «ميكرو-بوليتيك»، أي انخراط السلطة في التفاصيل الحياتية واقتحام خصوصيات المواطن سعياً إلى تتبّعه ومراقبته، وضبطه ولجمه، ثم معاقبته في حال حاد عن المسار الذي رُسِم له. لكنّ الحاجز العسكري، في الحالة الفلسطينية تحديداً، يتخطى هذا المفهوم المعاصر دون أن يقفز فوقه، بحيث إنه يشكل مسرحاً من مسارح الاستيطان؛ هو «مكان المستوطن»، علماً أنه وبدون ريبٍ، انتهاك صارخ لوجود الإنسان الفلسطيني ولخصوصياته. فالدولة الحديثة كما يرى المفكر الفرنسي بول فيريليو إذ تسعى للسيطرة على الفضاء وعلى حركة الأشخاص، فإنها تجتهد في إيجاد آليات لضبطهم، لذلك فإنها تقوم بوضع الحواجز لكي تحافظ على سيطرتها.
تنتشر الحواجز في كلّ أرجاء فلسطين وتأخذ أشكالاً مختلفة (سياج شبكي، ألواح، مكعّبات إسمنتية، بوّابات حديدية، مركبات جيش، أبراج عسكرية...) إلا أنها تتشارك كلها الغرض ذاته، ذلك المتمثّل بالرقابة والسيطرة على الفلسطيني وعلى حياته. ينصب الاحتلال الحواجز، والجدار الفاصل، بالإضافة إلى تنفيذه لمشاريع تعزل المدن والتجمّعات السكّانية الفلسطينية عن بعضها، بينما تربط الكتل الاستيطانية والتجمّعات الحضرية للاحتلال، فتصبح حركة التنقّل عند الفلسطيني عملية في غاية الصعوبة، بعيدة كل البعد عن أصلها كفعل يومي بسيط.
عند المرور على الحاجز، لا شيء يغدو مؤكّداً. لهذا المرور تسمية يطلقها البعض، وهي «عبور»، حيث يعودون إلى فعل عَبرَ ليطلقوا على الحاجز مصطلح «المعبر» باعتباره بوابة العبور، أي انتقال من موضع إلى آخر. يرى تيم كريسويل أن للحركة جوانب عديدة، تحتاج إلى عائق لكي يقف في وجهها ويوقفها، مثل الحاجز مثلاً، كونه مُصمّماً لتقييد الحركة وللسيطرة عليها، ما يعني إعاقتها. يبقى أن الحاجز غالباً ما يكون عائقاً، ذلك من خلال إغلاقه للمعابر وفرض السلطة المنع عن الحركة، فهو إذاً عائق أكثر من كونه محض نقطة عبور. وبغضّ النظر عن التعبير المستخدم، فإنه من المستحيل أن يطبّع المارّ مع وجود الحاجز أثناء مروره منه، وكل رهان على قدرة الإنسان في التكيّف مع محيطه يسقط عند هذا الاختبار.
أمرّ من حاجز قلنديا، الذي يُعدّ من أكبر «نقاط العبور الرسمية» من الضفة الغربية إلى القدس بشكلٍ شبه يومي، ومن القدس إلى رام الله وبالعكس، ويُخيّل إليّ أحياناً، أننا جميعنا كائنات ضئيلة، وعاجزة أن تواجه عدوّاً متمرساً وراء لوح زجاجي، ننتظره ليقرّر مدى تعقيد تجربتنا في المرور. إن الحاجز، وفي الحالة هذه نعني به «مكان» المحتلّ وسلطته، لا يعترف بالمارّ الفلسطيني كشخص ينشط، يتحرك، تسكنه الحركة ويسكن فيها، بل كجسم جامد. يرى الاحتلال المارّ كأنه عدم، ويتعامل معه على الأساس نفسه: أنه (الفلسطيني المار) عدمٌ. فحركة الجسد بما هي تحرك، وتفاعل وتلاقٍ، أو باختصار دورة الحياة الطبيعية، يعدمها الحاجز بكونه عائقاً يفتعل الانتظار في تجميده للوقت، ويمزق المساحات في قطع أوصالها. إن الجمود الذي يبغي الحاجز خلقه ما هو إلا حركة عنيفة؛ قتل، أو تعذيب (المارّ) في جعله يتذوق طعم الموت البطيء.
إن الوقت الذي يتطلبه عبور الحاجز يمكننا أن نسميه «الوقت الجامد»، وهو وقت «عدم» حيث لا يحدث فيه شيء. تتجمّد حينها الأفكار، كما أن عملية التفكير المعتادة تصبح شبه مستحيلة. تشعر أن هذا الفضاء قد التهمك، أنت الآن تسكنه مع كل المنتظرين، تتشاركون الهواجس والأفكار عينها، وتغفلون عن الأفكار اليومية الأخرى لأن الهم الأساسي عندكم هو المرور. تجبر تجربة المرور الفلسطينيين على مواجهة أسئلة الهوية الشائعة في المطارات حيث تشعر أنك بحاجة إلى إثبات براءتك وإظهار أنك لا تشكل تهديداً أو خطراً.
إن «السفر» عبر الحاجز هو أسوأ نسخة عن البطء، حينئذٍ تصبح السرعة، والتي يتذمّر منها العمال ويعتبرونها أشبه بلعنةٍ نظراً إلى ما تقتضيه من جهدٍ وتعب، تصبح ترفاً في حين أن البطء الذي يفرضه الحاجز ما هو سوى جحيمٍ موحش. فمهما تنوّعت أشكال الحركة، ومهما اتخذت هذه الحركة من جوانب سياسية، إلا أنها تنخرط في إنتاج القوة وفي إنتاج علاقات الهيمنة. فمن يمتلك السرعة ومن يتحكّم بها، يعتبر المهيمِن، وهو ضمن المجموعة القادرة على التنقّل في كلّ الأمكنة وفي كلّ الأوقات، بينما الطرف الآخر، أي المهيمَن، قد أُجبر على المكوث في محيطه المسيَّج.
ومثلما يُحدث الحاجز تغيّراً في مفهوم الزمن، فإنه يعبث في الجغرافيا كذلك الأمر، بحيث يفرض العزل والتفرقة. إن حاجز قلنديا المبني على أرضٍ لقرية قلنديا، التابعة تاريخياً لمدينة القدس، أي أنها مدينة واحدة، ما يسمح لعابره أن يشعر بأنه بين مدينتين أو «دولتين»، لأن الحاجز قام بفصل المساحات بعد أن استباحها وخلق «مكانه» الخاص.
وبما أن الحديث عن حاجز قلنديا، فالأخير قد تمظهر بأشكالٍ مختلفة منذ نشأته في أواخر عام 2001. دائماً ما يتم تجديد هذا الحاجز وإجراء تغييرات مستمرةٍ عليه. في ورقة بحثية عن حاجز قلنديا، تتحدث الباحثة هيلغا طويل سوري، عن كيف أصبح الحاجز سوقاً تجارياً، وكيف أصبح الاستحواذ الفلسطيني على نقاط التفتيش، كمراكز اقتصادية واجتماعية محاولة لتقييد الفضاء، المقيِّد أصلاً. لكن مع سرعة وكثافة التغيّرات المستمرة والرامية إلى تعزيز إحكام القبضة الأمنية/العسكرية فإن الاستحواذ قد تلاشى. حتى «السوق التجاري» الذي كان في فضاء الحاجز ومحيطه من قبل لم يبقَ منه إلا آثار. وكما رأى فيريليو من قبل: «إن التصورات المعمارية السابقة عن تنظيم الزمان والمكان هي تصوّرات زائدة عن الحاجة أمام المشهد المعلوماتي والحاسوبي الجديد الذي يتكامل فيه تنقل الناس والأشياء بإحكام مع البنية التحتية للبرمجيات»، بات حاجز قلنديا اليوم مُزوّداً ببوّاباتٍ إلكترونية وأجهزة متطوّرة وكاميرات تصوّر المارّة الذين عليهم أن يُمرّروا بطاقة الهويّة أو تصريح الدخول الممغنط على الآلة. فالتقنية والبرمجة هما اللتان ستقرّران بدورهما إمكانيّة العبور من عدمه. لكن كل تغيير يرافقه المزيد من الصعوبات، فإذا ما سمح لك في المرور الآن، فلديك مدة طويلة للمشي لكي تستطيع أن تعبر، ما يجعل التجربة أكثر إنهاكاً. لقد أُضيف أخيراً جسرٌ للمشاة يقع فوق مكعّبات التفتيش التي يقف عندها الجنود لإيقاف السيارات للقادم من القدس عند مدخل حاجز قلنديا. أنت ترى الجندي من فوق لكنك لا تمر بجانبه وقد جرى هذا كإجراء أمني. حين أتموا إنشاءه، فكرتُ، أنه كلما ظنناهم كثّفوا عوائق المرور تبيّن أنه يوجد المزيد والمزيد منها. إن كل تغيير عمراني، أو «تحديث» يقوم به الاحتلال على مرافقه، دائماً ما يتبعه المزيد من الخنق والأسر للفلسطينيين.
إن الحاجز ليس مكاناً قائماً بحدّ ذاته، ولا منفصلاً جغرافياً كما يتهيّأ للشخص وهو داخله، فهو يتغير من خلال الأحداث والعمليات التي تحدث خارجه كما هي من خلال ما يحدث داخله. يُشترط زوال هذا المكان بزوال مسبّبه، وتصلح المعادلة أن نعكسها رأساً على عقبٍ أيضاً، يُشترط زوال مسبّب هذا المكان بالقضاء على هذا المكان أيضاً.