القاهرة | عندما انعقدت القمّة الروسية - الأفريقية في سوتشي في تشرين الأول 2019، بدت واضحة رغبة موسكو في تعزيز تعاونها مع الدول الأفريقية المؤثّرة، في محاولة منها لإيجاد موطئ قدم لها في القارّة السمراء، بعد سنوات ابتعدت فيها عن غالبية تلك الدول، على رغم دعمها العلني لأحداث «30 يونيو» 2013 في مصر، والتي أطاحت حكم «الإخوان المسلمون»، ومهّدت لصعود عبد الفتاح السيسي، الذي كان بوتين أوّل مَن استقبله وهو لا يزال بالزيّ العسكري في وزارة الدفاع، داعماً ترشّحه للرئاسة، بما يخالف حتى القوانين المصرية التي لا تسمح للعسكريين بالترشّح إلّا بعد استقالتهم من مناصبهم. ومع فوز السيسي بالرئاسة، زار بوتين القاهرة مرّتين، في وقت كانت فيه بلاده تتقدّم نحو رأس قائمة الدول المُصدّرة للسلاح إلى مصر، منافسةً بذلك «الحليف» الأميركي للقاهرة، خصوصاً مع شراء الأخيرة مقاتلات «سوخوي 35» الروسية. لكن هذا التطوّر في العلاقات سرعان ما تأثّر سلباً بحادث انفجار الطائرة الروسية فوق سيناء، وما تبعه من تعارض في المصالح في ملفّات عدّة من بينها سوريا وليبيا، تسبّب في توتّر نسبي بين الجانبين، وتأخير في مناقشات الشراكة الاستراتيجية التي انعقدت من أجلها لقاءات مكثّفة في السنوات الأولى من حُكم السيسي.أمّا في السودان، فكانت اتفاقية إنشاء القاعدة العسكرية البحرية الروسية في مدينة بورتسودان الاستراتيجية المُطلّة على البحر الأحمر، والتي وُقّعت خلال زيارة الرئيس المخلوع عمر البشير إلى موسكو عام 2017 قبل أن يتمّ إيقافها بعد إسقاط الأخير من الحُكم، هي الاتفاقية الأهمّ التي جرى إبرامها من بين عشرات الاتفاقيات الأخرى بين البلدَين. لكن المشروع الذي جرت عرقلته من قِبَل السلطة الانتقالية في السودان بعد التقارب مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، دفع موسكو إلى اتّخاذ خطوة إلى الخلف، على رغم الصمت الرسمي الروسي عن التصريحات السودانية بوقف المشروع، والتي عُدّلت لاحقاً للقول إن ما حدث هو عملية مراجعة فقط ستقوم بها السلطة الانتقالية، وفق ما صرّحت به أخيراً وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، خلال زيارتها الأخيرة إلى موسكو. وتتطلّع روسيا إلى الاستفادة من موقع السودان الاستراتيجي على البحر الأحمر، لتكون لها هناك القاعدة البحرية الأكبر والأهمّ، والتي ستسمح باستضافة غوّاصات نووية، إلى جانب ما تُقدّمه من دعم للأسطول الروسي والدول الحليفة في المنطقة. على أن السعي الروسي للتواجد في أفريقيا لم يكن وليد الصدفة، بل ترجمة للسياسة الخارجية للاتحاد الروسي، والتي وقّعها بوتين عام 2015، وتضمّنت تشديداً على توسيع العلاقات الروسية - الأفريقية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى المساهمة في تسوية الصراعات والأزمات الإقليمية - والتي شكّل نموذجاً منها عرض وساطة روسية في أزمة سدّ النهضة في الفترة نفسها التي كانت تُفضّل فيها مصر الوساطة الأميركية -، إلى جانب توقيع المزيد من الاتفاقيات العسكرية مع الدول الأفريقية.
تسعى روسيا إلى توليد نوع من التوازن بين رغبات الدول الثلاث الأطراف في أزمة السدّ


في ما يتعلقّ بأزمة سدّ النهضة تحديداً، بدا لافتاً، أخيراً، الانحياز الضمني الروسي إلى الجانب الإثيوبي، باستخدام مندوب روسيا في مجلس الأمن، ڤاسيلي نيبينزيا، خلال جلسة مناقشة الأزمة، عبارة: «القلق من تنامي الخطاب التهديدي المستخدَم»، واكتفائه في المقابل بالإشارة إلى المشاغل المعروفة لمصر والسودان في شأن التبعات السلبية لتشغيل السدّ، وهو ما أثار غضب الدبلوماسيتَين المصرية والسودانية، بل ومطالبات مصرية بوقف التعاون بين البلدين حتى على مستوى المفاعل النووي في الضبعة، والذي تصل كلفته إلى أكثر من 25 مليار دولار. لكن الموقف الروسي لم يكن غير متوقّع في حقيقة الأمر؛ ذلك أن موسكو ترفض منذ البداية الحلّ العسكري لما قد يجرّه من أزمات، خصوصاً أن إثيوبيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام أيّ عمل عسكري مصري، بل ستكون هناك فرصة أمام نظامها لتحشيد مواطنيه خلفه في الردّ على أيّ عمل من هذا النوع. كما أن مصر والسودان ستفقدان، والحال هذه، أيّ التزامات إثيوبية في شأن مياه النيل في المستقبل، فضلاً عن أن الدول الأفريقية سترفض التحرّك العسكري كونه سيوقف عملية التنمية التي يدعمها السدّ في إثيوبيا، وبالتالي فلن تخسر القاهرة والخرطوم العلاقات مع أديس أبابا فقط، ولكن مع عدد كبير من الدول الأفريقية، بحسب القناعة الروسية.
قناعة تمثّل جزءاً من انعكاسات السعي الروسي إلى الحصول على امتيازات من الأطراف كافة، وهو ما يقتضي استخدام سياسة «المدّ والجزر» معهم، إلى جانب عرض التوسّط في ما بينهم أو على الأقلّ الاطّلاع على تفاصيل أيّ وساطة أخرى. والبلدان الثلاثة تدرك ذلك تماماً، خصوصاً في ظلّ المصالح المشتركة بين كلّ منها وبين الروس، والتي لا يمكن الاستغناء عنها أو حتى تقليصها. وما موافقة موسكو على استئناف رحلات «الطيران الشارتر» إلى مصر بعد توقّف دام 6 سنوات، قبيل ساعات فقط من بدء جلسة مجلس الأمن، إلّا نموذج من تلك «المناورات» التي كثّفتها روسيا إزاء الدول الثلاث خلال الأسابيع الماضية. وفيما أبدت استعدادها لعقْد جولة جديدة من الحوار الاستراتيجي التي تجمع وزراء الخارجية والدفاع في البلدين، وقّعت، في الوقت نفسه، مع إثيوبيا، اتفاقيات عسكرية مُوسّعة «لها أهمية قصوى في تحويل العلاقات طويلة الأمد بين البلدين إلى مستوى أعلى»، بحسب ما ذكرت وزيرة الدفاع الإثيوبية، مارتا لويجي، بعد اجتماعات استمرّت ثلاثة أيام في أديس أبابا لـ«منتدى التعاون العسكري الإثيوبي - الروسي» في دورته الحادية عشرة. وتُعتبر روسيا المصدر الأول لتسليح الجيش الإثيوبي الذي يواجه عقوبات أميركية بسبب أزمة تيغراي، بعدما سعت إدارة دونالد ترامب للضغط عليه في ملفّ المساعدات بسبب أزمة السدّ، في موقف تأمل مصر اتّخاذه أيضاً من جانب إدارة بايدن.
تستفيد روسيا، إذاً، من العلاقات مع أطراف الأزمة، وحتى من تباين وجهات النظر بينهم وبين واشنطن في بعض الملفّات، خاصة في حالة إثيوبيا، فيما لم تُظهر القاهرة، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، الميل الذي كانت تأمله موسكو منها، خصوصاً في ظلّ محاولة السيسي تطبيق سياسة «عدم انحياز» في العلاقات الدولية. هكذا، وفي الوقت الذي تجد فيه إثيوبيا في روسيا حليفاً قوياً يمكن أن تعتمد عليه في المحافل الدولية بمواجهة الولايات المتحدة، يسعى السودان، ومن خلفه مصر، لإقناع موسكو بالعمل على تليين الموقف الإثيوبي، لتحقيق توافق سياسي سواء عبر وساطة الاتحاد الأفريقي أو أيّ جهة دولية أخرى، في وقت تستمرّ فيه موسكو في مساعيها لتعزيز شراكاتها مع البلدان الثلاثة خلال فترة المفاوضات، لا سيما في ما يتعلّق بمسألة القاعدة البحرية في السودان، والتي توليها أهمّية قصوى في الفترة الحالية، فضلاً عن إبرام مزيد من صفقات التسليح مع تسهيلات في السداد لإثيوبيا (من أجل زيادة نسبة مبيعات السلاح الروسي لمنطقة القرن الأفريقي) وتنفيذ مشروعات تنموية في الأخيرة، بما يضمن توفير فرص عمل واستثمارات روسية، لا سيما في مشروع محطّة الطاقة النووية الذي جرى التفاوض بشأنه العام الماضي.
بالنتيجة، يمكن القول إن الرؤية الروسية القائمة على أولوية ضمان مصالحها (في المشروعات العسكرية أساساً والتنموية تالياً) في الدول الأفريقية، تُمثّل المُحرّك الرئيس لموقف موسكو في أزمة السدّ، والذي يدعم التوصّل إلى اتفاق دائم في شأن عملية تقسيم المياه، ومراعاة التغييرات التي طرأت في السنوات الماضية. هكذا، تسعى روسيا إلى توليد نوع من التوازن بين رغبات الدول الثلاث، وهو ما لن يتحقّق من دون تنازلات تُقدّمها الأطراف كافّة. ومن هنا، يُفهم إحجام موسكو عن إظهار دعم علني لأيّ من أطراف الأزمة. وعلى رغم أن روسيا قد لا تكون شريكاً مباشراً في جولات التفاوض المتوقّع انطلاقها خلال الأسابيع المقبلة، إلّا أنها ستكون طرفاً مؤثراً في القضية عند إعادتها إلى مجلس الأمن في الربيع القادم، في حال لم تنجح جولات التفاوض الآتية. ولذا، ستسعى القاهرة والخرطوم إلى عدم إغضاب موسكو لمنعها من استخدام حق «الفيتو» بوجههما في المجلس، بينما ستواصل أديس أبابا سياسة تعميق العلاقات مع الروس، أملاً في الحصول على «الفيتو» المذكور.