ثلاث سنوات مرّت على افتتاح قناة السويس الجديدة. اليقين بـ«الإنجاز العبقري» ذهب إلى غير رجعة، ولم يتبقَّ سوى «الشك» في جدوى هذا المشروع العملاق، الذي قُدّم على أنه «هدية مصر للعالم»، وخشبة الخلاص للاقتصاد المصري المحاصر بالضغوط. هذا الشك لم يعد حكراً على المعارضين الذين تلاحقهم تهمة التشويش على «الإنجازات». الفريق مهاب مميش، وهو رئيس «هيئة قناة السويس»، نفسه، الذي جزم في السابق بأن «هدية مصر إلى العالم» ستدرّ 100 مليار دولار سنوياً على مصر، أعلن أمس أن القناة لم تكسر حاجز 16 مليار دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، علماً أن معدل أرباح القناة القديمة سنوياً كان يفوق خمسة مليارات!إذن، لم يكن الأمر يحتاج إلى تحليل كثير للتفريق بين «أوهام» الدعاية الرسمية، و«واقعية» المعطيات الاقتصادية في شأن «قناة السويس الجديدة». الصدمة الأولى جاءت في الاحتفال الأول بتدشين القناة عام 2016، حين قال الرئيس عبد الفتاح السيسي، إن «تثبيت الدولة المصرية يتطلب أشياء كثيرة، أهمها استعادة طاقتنا بأنفسنا، وبعضنا البعض، والأمر ليس مرتبطاً بجدوى المشروع (اقتصادياً)، وإنما برفع الروح المعنوية للشعب المصري».

الفشل... بالأرقام
كانت قناة السويس، التي يبلغ طولها 192 كيلومتراً، تختصر زمن الرحلة بين آسيا وأوروبا بنحو 15 يوماً في البحر المتوسط، ومن خلالها كان يعبر ما يقارب 8% من حجم التجارة العالمية، لكن السيسي قرر شق تفريعة جديدة أراد إنجازها في وقت قياسي، عام واحد، ليتم تدشينها في مطلع آب 2015. التفريعة الجديدة خُطّط لها أن تكون بطول 35 كيلومتراً، وبعرض 317 متراً، وبعمق 24 متراً، بما يسمح بعبور سفن بغاطس يصل إلى 66 قدماً، أملاً في زيادة عوائد رسوم المرور، إضافة إلى استيعاب الجديد من السفن، ورفع الطاقة الاستيعابية عموماً للعبور المباشر إلى 45 سفينة من دون توقّف في كلا الاتجاهين.
المأمول من المشروع الضخم كان كما أعلن آنذاك زيادة عائدات قناة السويس بنسبة 259% بحلول 2023، ليصبح 13.226 مليار دولار سنوياً مقارنة بالعائد الحالي، 5.3 مليار.
جراء ذلك، في أيلول 2014، أي بعد أقل من شهر على إعلان السيسي المشروع الجديد، جمعت الحكومة نحو 64 مليار جنيه (9 مليارات دولار) عن طريق طرح شهادات استثمار بفائدة 12% مقابل 8.75% في المصارف للودائع القصيرة الأجل، و9.25% تقريباً لشهادات الاستثمار، بغرض تمويل كفلة المشروع الضخم. أدت هذه الخطوة عملياً إلى عمليات سحب كبيرة للمدخرات المصرفية وتحويلها إلى شهادات استثمار، قبل أن ترفع المصارف، عقب قرار تعويم الجنيه المصري، الفائدة إلى معدلات تخطت 20%، لتتراجع إلى 17%، وهو ما رفع الفائدة على الشهادات عام 2017 إلى 15.5%.
وفقاً للأرقام والإحصاءات الرسمية، كانت إيرادات القناة في السنوات المالية السابقة تتراوح بين 5.25 مليار دولار في العام المالي 2013-2014، و5.37 مليار دولار في العام المالي 2014-2015، وهو العام الذي سبق حفر التفريعة مباشرة. وبعد افتتاح التفريعة في آب 2015، تراجعت الإيرادات إلى 5.13 مليار دولار في العام المالي 2015 -2016، ثم تراجعت مرة أخرى إلى 5.01 مليار في العام المالي 2016–2017، قبل أن ترتفع إلى 5.58 مليار للعام المالي 2017-2018.

اعتراف بالإخفاق
هذه الأرقام تبقى غير معبرة عن التوقعات الطموحة التي بدا السيسي واثقاً في شأنها، وأبرزها توقعاته في آب 2014 أن «المشروع سيؤدي إلى ارتفاع إيرادات القناة سنوياً، وصولاً إلى تحقيق 13.2 مليار دولار سنوياً ابتداءً من 2023»، قبل أن يتراجع تدريجياً ليعلن في 16 آب 2015، أي بعد أيام قليلة من افتتاح التفريعة، أن القناة الجديدة غطت تكاليف حفرها البالغة 20 مليار جنيه، ومن ثم أيار 2016، حين رد على المشككين بأرقام بدت متواضعة، كاشفاً عن أن دخل قناة السويس زاد بنسبة 5% فقط، أي بمعدل 250 مليون دولار سنوياً عما كان قبل إنشاء القناة الجديدة. أما آخر تصريحات الرئيس، فكانت في تموز الماضي، حين تحدّث عن «زيادة تتراوح ما بين 2 و3 في المئة إلى 5 في المئة، في الإيرادات السنوية للقناة، بما يصل إلى 600 مليون دولار سنوياً».
يشرح الخبير الاقتصادي، وائل النحاس، بأنّ استراتيجية الدولة المصرية في التعامل مع قناة السويس لزيادة إيراداتها كانت «تجري عن طريق زيادة الرسوم المفروضة على عبور السفن، وهو ما كان يحقق زيادة وهمية، فلم يكن هناك أي أعمال تطوير في القناة، وبذلك اكتفت هيئة قناة السويس بزيادة الرسوم على السفن العابرة». ويشرح النحاس أن السفن كانت تستجيب خصوصاً بعد ارتفاع سعر برميل النفط بعد الأزمة الاقتصادية عام 2008، لكن بعد انخفاض الأسعار، ومع استمرار زيادة رسوم العبور، بدأت السفن الصغيرة تفرّ من القناة، لتلجأ إلى طريق رأس الرجاء الصالح الذي يعد أطول، لكنه أصبح أكثر توفيراً بالنسبة إليهم.
النحاس يخلص إلى أن استهداف الوصول إلى 13.2 مليار دولار سنوياً من عائدات القناة هو «أمر مبالغ فيه، لأنه يعتمد على حركة التجارة العالمية، ولا توجد مؤشرات على وجود زيادة استثنائية في المستقبل»، متوقعاً أن تصل الزيادة في أفضل الأحوال إلى 7-8 مليارات دولار. كما يرى أن القناة الجديدة حققت أقصى ما يمكن تحقيقه بالحفاظ على مستوى الإيرادات عند 5 مليارات دولار، وزيادته خلال العام الحالي إلى 5.6 مليار، «لكن تعظيم الدخل يأتي من محور تنمية قناة السويس، الذي لم يحقق الهدف المرجو منه بسبب الطريقة البدائية في إدارته، لا سيما بعد إقالة أحمد درويش، رئيس المشروع السابق».

فائدة «نفسية»!
هل استفادت ميزانية الدولة من حصيلة شهادات قناة السويس الجديدة؟ الإجابة توضحها الأرقام، فالدولة جمعت 64 مليار جنيه بفائدة 12% لمدة خمس سنوات، لكن أصحاب الشهادات سحبوا أربعة مليارات جنيه عن طريق استرداد أموالهم بعد عام واحد من الشراء، وحصلوا على 480 مليون جنيه فوائد عن هذا العام، ليتبقى 60 مليار جنيه مطلوب سدادها بحلول نهاية آب 2019. وقررت الحكومة بعد ارتفاع الفائدة في المصارف، في آذار 2017، رفع معدل الفائدة على شهادات الاستثمار إلى 15.5% للعامين الباقيين من الشهادات، ما يعني أن الدولة سددت 36% من الفوائد على الشهادات خلال ثلاث سنوات، ثم 31% خلال عامين، بمجموع 67% فوائد، إضافة إلى أصل المبلغ وهو 60 مليار جنيه، أي أنها تكلفت خلال خمس سنوات ما يزيد على 100 مليار جنيه.
الباحث في علم الاجتماع السياسي عمار علي حسن يرى أن المشروع لم تكن له أي أسباب اجتماعية أو اقتصادية، مؤكداً أن السيسي نفسه «بعدما رأى فشل المشروع ادعى في تصريحات إعلامية بأنّ للمشروع أسباباً أخرى غير اقتصادية». ويتساءل حسن، في حديث إلى «الأخبار»، عن الأسباب الاجتماعية المدعاة للمشروع الضخم، «فلا هو ساهم في تعزيز روح الانتماء إلى الوطن أو في أي ظاهرة اجتماعية إيجابية، بل إن الكثير من المواطنين ندموا بعدما أودعوا مالهم في شهادات استثمار القناة للحصول على فائدة بمعدل 12%، ثم فوجئوا بالتعويم وارتفاع سعر الفوائد المصرفية الذي وصل في بعض المصارف إلى 20%». لذلك، يرى الباحث أن المشروع لم تكن له جدوى ولم يحقق أهدافه، «بل استنزف الميزانية وبات إحدى العلامات السلبية الكبيرة في ولاية السيسي الأولى».
على هذا الأساس، قد يكون الأثر النفسي هو الفائدة الوحيدة التي حققها المصريون من «قناة السويس الجديدة»! الخبير النفسي جمال فرويز يرى أن الفائدة الوحيدة من جراء المشروع هي أنه أعاد إلى المصريين الشعور بأنهم قادرون على فعل أي شيء صعب إذا أرادوا. لكن فرويز يؤكد، في حديث إلى «الأخبار»، أن المشروع ترك سؤالاً صعباً لدى المصريين بلا إجابة، وهو أنه «إذا كنا نستطيع إنجاز مشروع ضخم كهذا، فلماذا لا نكرر ذلك في بقية المجالات، ولماذا نترك اقتصادنا في تلك الحالة المتردية ما دام بإمكاننا تنفيذ مشاريع ضخمة نستطيع إنجازها في عام واحد كما رأينا؟».
يبقى في حكم المؤكد أن مشروع قناة السويس الجديدة ترك كل الأطراف خاسرة، فالسيسي لم يسلم من الانتقادات بعد اتساع الهوة بين ما «الحلم» و«الحقيقة»، وخزانة الدولة استنزفت عشرات المليارات وما زالت في طريقها لخسارة المزيد عبر تسديد عوائد شهادات المشروع، وأصحاب الشهادات خسروا نسبة كبيرة من قيمة مدخراتهم بسبب تعويم الجنيه وزيادة معدلات الفائدة في المصارف، والمواطنون بدؤوا يشعرون بالإحباط الشديد بعد تصريحات السيسي القائلة إنّ «قناة السويس الجديدة» كانت تهدف إلى رفع الروح المعنوية التي وصلت إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق مع بداية الولاية الرئاسية الثانية في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة ومغامرات المشروعات الاقتصادية غير المدروسة.

تنمية محور قناة السويس؟
من ضمن المشاريع التي دار الحديث عنها بموازاة «القناة الجديدة» خطة طموحة لتحويل محور قناة السويس من مجرد معبر تجاري إلى مركز صناعي ولوجستي عالمي لإمداد وتموين النقل والتجارة. وبالفعل، بدأ العمل على تطوير ستة موانئ ضمن مشروع تنمية محور القناة، بما يسهم في زيادة استيعاب البضائع، ومواكبة التطور الاقتصادي الكبير، خصوصاً في منطقة شرق آسيا واستقبال الناقلات العملاقة.
ويتضمن المشروع إنشاء منطقتين صناعيتين، ومشروع مزارع الأسماك في السويس لرفع مستوى الأمن الغذائي في مصر، وهو يهدف، وفق المعلن، إلى «تحقيق تنمية مستدامة اقتصادياً مصحوبة بخلق مجتمعات عمرانية جديدة في شرق بورسعيد والسخنة وخليج السويس»، حيث يفترض أن تتضاعف المساحة المأهولة بالسكان في مصر إلى 12%، بدلاً من 6%، مع اكتمال مشروع قناة السويس الجديدة. لكن الخبراء يؤكدون أن القناة الجديدة ومشروعها الطموح لن يكون قادراً على تغيير وجه التجارة العالمية مثلما فعلت القناة القديمة.
على سبيل المثال، أوضحت شركة «كابيتال إيكونوميكس» للدراسات والبحوث الاقتصادية في لندن، في تحليل أصدرته منذ سنوات، أن «توقعات الحكومة المصرية تبدو معتمدة على افتراضات متفائلة وغير قابلة للتصديق بخصوص التجارة الدولية، لكن ليس لها أساس وغير واقعية»، موضحة أنه لكي تتحقق هذه الزيادة في عائدات قناة السويس يجب أن تزداد التجارة الدولية سنوياً بنسبة 9%، وهي حالياً تتزايد بمعدل 3% فقط!