لفتت المعدّلات المرتفعة لنتائج الثانوية العامة بفروعها الأربعة، أنظار المعنيين بالشأن التربوي وغير المعنيين به، إذ طرحت علامات استفهام بشأن عدد التقديرات والدرجات والعلامات الكاملة على المواد، وما إن كانت تعكس المستوى المعرفي الحقيقي لأصحابها، أم التألقُ والتميّز اللافتان يتعلقان بأسباب أخرى مثل الغشّ والتساهل في المراقبة والتصحيح، أو تقليص المحتوى، أو تبسيط أسئلة المسابقات وغيرها من الأسباب؟تدعونا النتائج اللافتة، والتي تحوّلت إلى مناسبة احتفالية للطلاب وأهاليهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا حقّهم، وفرصة لمديري الثانويات الرسمية والخاصة للاستعراض في نسب النجاح وعدد التقديرات التي حصدها طلابهم، كمهتمين وفاعلين في الشأن التربوي إلى التوقف أمام هذه الظاهرة، مع ما يعانيه النظام التعليمي من ظواهر ومشكلات أخرى، للتحذير من الوقوع أمام مكر التفوق الوهمي، والذي سيزيد من هشاشة النظام ويخدش صورته أكثر فأكثر.
إنّ التضخم الحاصل في النتائج الأخيرة يجعل معدّل طلابنا يضاهي معدلات طلاب الدول التي تحتل مراكز متقدّمة جداً على خارطة التعليم في العالم. فإذا كانت الغاية من الامتحانات الرسمية في أي دولة لا تنحصر في تحديد مستوى أداء الطالب وقدراته وإعطاء شهادة له فحسب، وإنما اعتمادها كوسيلة أساسية لتقويم النظام التعليمي وأدواته، ابتداءً من أعلى سلطة تربوية وانتهاءً بالمعلّم في صفه، فهل يعني هذا حقاً أن صورة نظامنا وردية إلى الحدّ الذي يتناسب مع حجم النتائج اللافتة؟ أم أن صورته الحقيقية تتناسب مع نتائج تلامذتنا المتدنية في الاختبارات الدولية تيمز وبيزا والاستحقاقات الدولية الأخرى؟
النتائج المتضخمة هذه لا تنفي وجود طلاب متميّزين قادرين على تحقيق التفوّق في أي استحقاق، والغاية هنا ليست للتقليل من جهود الطلاب والمعلمين والمدارس في ظروف استثنائية جداً، لكن ما يجدر التوقف عنده أن نسبة كبيرة جداً من الطلاب الذين حازوا مراتب متفوّقة لم يكونوا قادرين على تخطي المستوى الجيّد (14 من 20) في مدارسهم، ومنهم من كان يرسب طيلة العام الدراسي وحاز درجة جيّد وجيد جداً! فكيف لنا أن نبرّر مثلاً نيل طالب، لم يلتحق بثانويته خلال العام الدراسي سوى بضعة أيام، درجة جيّد؟ أو أن تحصل طالبة في صف علوم الحياة، لم تتعدّ علامتها في اللغة العربية 20 من 40 طيلة العام الدراسي، على 35 في الامتحان الرسمي، متجاوزة زميلتها المتميّزة في الصف طيلة العام الدراسي، والتي حصلت على المرتبة الأولى في محافظتها؟ وما موقفنا عندما نسمع تلميذاً في صف العلوم العامة يقول إنه هو نفسه متفاجئ بعلامة 70 من 80 التي حازها في الفيزياء، بما أنّ علامته لم تكن تتجاوز 25 من 110 في كلّ الامتحانات المدرسية؟
مثل هذه المفارقات تأخذك لتقصّي نتائج طلاب شهادة الثانوية العامة خلال العام الدراسي، وباختيار عشوائي لأكثر من ثانوية، رسمية وخاصة، من أجل مقارنتها مع نتائج الامتحانات الرسمية. تجد أن نسبة المتميّزين، كمعدّل في هذه المدارس لا تتجاوز 10%، والطلاب في المستوى المقبول لا تتجاوز 40%، في حين أن 50% دون المستوى المقبول وغير قادرين على الوصول إلى معدّل النجاح (10 من 20). حتى إن نسبة قد تصل إلى 25% لم تتجاوز معدّل 7 من 20. في المقابل نجد أن جميع الطلاب نجحوا في الامتحانات الرسمية، وحاز ما يقارب 80% منهم تقديرات، والأبرز أن منهم من تجاوزوا زملاءهم المتميّزين في الصف أساساً، وثمة من كان لديه معدّل أقلّ من 7 من 20 في المدرسة حاز تقدير جيّد جداً في الامتحان الرسمي.
أسئلة كثيرة تُطرح أمام هذه النتائج المريبة. هل المطلوب تكريس مشروعية الكمّ في التعليم والتقويم على حساب الكيف والنوع في تكوين المتعلّم؟ وهل تحوّل معيار التقييم من نجاح ورسوب إلى معيار الدرجة التي يحوزها الطالب في نجاح شبه مضمون؟ ألا تناقض هذه النتائج المنطق والواقع، ولا تعكس المستوى الحقيقي للطالب معرفياً ومنهجياً؟ ألا تسلب هذه النتائج المتورّمة حق الطلاب المتميّزين والجديين وتبخس تألّقهم وجهودهم وتميّزهم سلوكياً، ودراسياً على مدى سنوات أمام هذا الكمّ المنفلش من التقديرات الوهمية وغير الدقيقة لطلاب آخرين لا يستحقونها؟ ألا تضع هذه النتائج الطلاب وأهلهم أمام واقع مزيّف يعيشون فرحته لأيام، قبل الصدمة لاحقاً بواقع المستوى الحقيقي فور خضوع الطالب لامتحانات الدخول في أي جامعة رصينة؟ وهل الغاية من هذه النتائج رفد الجامعات الخاصة التجارية بأعداد كبيرة من التلامذة ممن يعتقدون أن تميّزهم هذا يمنحهم فرصة اختيار تخصّص نوعي، ليصطدم الطالب لاحقاً بواقع تعليمي صعب، مصحوب باستنزاف مالي لعائلته بحجة إعطاء مقرّرات تعويض دراسية عمّا فاته في المرحلة الثانوية؟ والمضحك أن تباهي وزارة التربية يأخذ مجده أمام إنجاز استحقاق هشّ ومبتور، بعيد كل البعد عن العلمية، والواقعية والموضوعية، والعدالة، وتكافؤ الفرص والمصداقية، والأسس البيداغوجية والديداكتيكية، في حين أن التباهي يجب أن يكون لحظة إنجاز إصلاح النظام التعليمي وتطويره بشكل حقيقي وصحيح، وتطهيره من كل الفيروسات المتحكّمة به. قد يبرّر البعض أن هذه النتائج طبيعية في ضوء مسخ محتوى المنهاج إلى الثلث، وتبسيط الأسئلة، والتراخي في أعمال المراقبة خلال الامتحانات، وفي التصحيح لناحية التساهل والإسراع في إعلان النتائج، وتخفيف شروط المتقدّمين للمشاركة في التصحيح تقديراً للظروف التي يمرّ بها المعلّمون. لكن يفوت هؤلاء، الذين ينظرون إلى النتائج فقط، من دون الالتفات الى الأسباب، إما عمداً أو لعدم قدرتهم بسبب غياب الكفاءة والرؤية لديهم، هو أن حقيقة الأمر تكمن في أن نظامنا التعليمي هرم وعاجز عن التجدّد والتطوّر، وغير قادر على رسم السياسات الكفيلة التي تأخذ بواقع التعليم والتقويم نحو الأفضل نتيجة العديد من العوامل، يأتي في مقدمتها أن مراكز القرار التربوي تُسند إلى من لا يملك الكفاءة والاختصاص، وأننا بتنا ندفع ثمن تراكم تاريخي من السياسات التربوية المرتجلة والتذبذب في القرارات والصراعات ذات البعدين الطائفي والسياسي، وسوء التخطيط والفساد الذي يحكم منظومتنا التعليمية الهشّة والتي تحوّلت فيها الامتحانات الرسمية إلى وسيلة لتحقيق مآرب شخصية لمنتفعين ذوي حظوة على مدى سنوات، وجعلت من الطلاب أوانيَ فارغة تُصبّ فيها المعلومات والمعارف المحدودة لتختزنها مؤقّتاً من دون وعي أو نقد أو تحليل، بدلاً من أن تكون هذه الامتحانات فرصة للتقويم العلمي الواقعي، ما يسمح بإعداد الطالب المفكّر، المبدع، الناقد والقادر على حلّ المشكلات والمتمتّع بالمهارات المتكاملة.

* باحث تربوي