كان الإعلان أخيراً عن الفائز بجائزة رافع الناصري للحفر والطباعة بدورتها الثانية (الأخبار 4/2/2016)، فرصة لاستعادة هذه التجربة الريادية في التشكيل العراقي. اسم رافع الناصري (1940- 2013) سيظلّ راسخاً بعد مسيرة خمسة عقود من الانجاز، منذ أن تنقّل للدراسة بين معهد الفنون الجميلة في بغداد والأكاديميّة المركزيّة في بكين، وبعدها في البرتغال لدراسة الحفر على النحاس في «غرافورا» في لشبونة. تفرّده في فن الحفر العراقي لم يكن وليد هذا السعي الأكاديمي فقط، فمن يدقّق في أعماله يدرك أي دأب شخصي مضى فيه الراحل مع تأسيسه تجمّع «البعد الواحد» مع شاكر حسن آل سعيد، ليتقدّم مسافات عن أقرانه وينتج أعمالاً متميّزة، مستثمراً فيها طاقة الخط العربي وموظّفاً أبياتاً من الشعر (القديم منه والحديث). يوم رحل بعيداً عن بغداد عام 2013، انطفأت روح المجرّب الذي بقي معانداً للمرض حتّى إتمام معرضه الاستعادي، حيث أخذ يناقش ويخطّط مع أصدقائه وتلامذته القدماء، ويبحث معهم في «تضاؤل اهتمامات فنّان اليوم فكريّاً».
ومع الإعلان عن الفوز بالجائزة، التقت «الأخبار» برفيقة درب الناصري، الشاعرة والناقدة مي مظفر، للحديث عن مشروع الجائزة بوصفها راعية لها.

■ ما البعد الجماليّ الذي تريد أن تحققه الجائزة؟
- كان رافع الناصري أول فنان عراقي يتخصّص في دراسة فن الغرافيك (1963). أحبّ هذا الفنّ وكرّس جهده للترويج له في إنتاجه وتدريس تقنياته، وأقام له فرعاً خاصّاً في معهد الفنون الجميلة في بغداد. كان ينتقي الخيرة من طلاب قسم الفنون الجميلة للتخصّص، ويقيم لهم المعارض، ويرشّحهم للمشاركة في المعارض الدوليّة الخاصّة بفن الغرافيك، وتلامذته اليوم ينتشرون في كل مكان بعدما أصبحوا فنانين مرموقين متميزين، لم يضيعوا في متاهات الغرب، ودائماً يشيدون بأستاذهم، ويؤكّدون دوره في مسيرة نجاحاتهم في إبداع فنون الحفر والترويج لها. لفنّ الغرافيك جمالياته التي يتميّز بها بسماته المتفرّدة؛ نظراً إلى النطاق الواسع للمواد المستعملة في تنفيذه وتنوّع تقنيات الطباعة التي تجعل هذا الفنّ وسيلة تتيح للفنان إمكانات متنوّعة للتجريب والتعبير. تبعاً لهذه التقنيات التي تطوّرت على مدى قرون في أوروبا مع تطوّر التكنولوجيا، بإمكان الفنّانين إيجاد لوحات تمتلك شحنات تعبيرية مؤثّرة، تطبع بنسخ متعدّدة، كلّ نسخة منها تعدّ عملاً أصليّاً.
كان أول فنان عراقي
يتخصّص في دراسة فن
الغرافيك عام 1963
الحفر على الخشب مثلاً، يسمح للفنّان أن يوجد خطوطاً دقيقة وناعمة بالحفر على سطح قطعة خشب ناعمة السطح. أما الحفر على المعدن (كالزنك والنحاس والألمنيوم) engraving فيوفّر فرصاً أكبر لمعالجة السطوح باستعمال الحامض etching، كالحفر الغائر intaglio والحفر بالإبرة dry point والحفر المائيّ aquatint والحفر التظليليّ mezzotint، جميعها توفّر للفنان حريّة التجريب بإيجاد درجات لونية متناغمة، وخلق أجواء خاصة بمشهد الصورة المطبوعة. فضلاً عن ذلك، فإنّ لاختيار نوعية الورق تأثيراً كبيراً على النتيجة النهائية للطبعة الواحدة. ويعد الليتوغراف، أو فن الطباعة الحجرية، من أقرب التقنيات الطباعية إلى الرسم. أما الطباعة الحريرية silk screen، والمختلفة عن جميع طرق الطباعة الأخرى، فلها إمكانيات ومرونة غير محدودة في نقل تصميم اللوحة إلى حيز التنفيذ. من التطوّرات المهمة لفن الغرافيك منذ الخمسينيات إدخال الصور الفوتوغرافية في اللوحة الغرافيكية. وهكذا نجد أن بهذا الاتّساع من التقنيات التي ما فتئت تتطوّر، يمكن للممارس والمتمرس أن يقدّم أعمالاً مطبوعة باذخة في جمالياتها وقوّة تعبيرها. ولا ننسى هنا العامل المشجع الأكبر في إنتاج هذه الفنون الغرافيكيّة منها الجانب الاقتصادي، وسرعة انتشاره، وانتقاله من بلد إلى آخر.

■ هل تحتاج الجائزة إلى مزيد من الترويج في الوسط التشكيلي العراقي؟
- لطالما كان تخصيص جائزة للغرافيك للفنّانين الشباب العراقيّين حلماً يراود رافع الناصري، أو من أولويات أحلامه الكثيرة التي تسعى إلى ترويج فنّ الحفر والطباعة (الغرافيك) والإعلاء من شأنه في العراق والعالم العربي. لكن مبادراته لتحقيق ذلك كانت تواجه بظروف تستدعي تأجيل المشروع. وكان من دواعي أسفي وحزني أن لا أتلقى على مدى الدورتين مشاركات من العراق إلا بقدر أقلّ من الضئيل. فقد علمت أنّ هذا الفن لم يعد يمارس كثيراً من قبل الفنانين العراقيين. في العام الماضي، ذهبت الجائزة إلى الفنّان التونسيّ كمال عبد الله، لكنّنا استحدثنا جائزة ثانية لمنحها لفنّانة من كردستان العراق، لم تتعلّم في مدرسة فنية وإنّما تدرّبت في محترف واحد من طلاب رافع الناصري. لقد فوجئنا بنشاطها وشغفها بهذا الفنّ والترويج له، فضلاً عن جرأة موضوعها «الحبّ بدلاً من العنف» عن سوء التعامل مع المرأة، ومعالجتها المتسمة بالعفوية وقوّة التعبير. أما في هذا العام، فقد شاركت فنّانة واحدة من البصرة، نفذت عملها بطريقة بسيطة جدّاً؛ لعدم توافرها على إمكانيات أفضل. لا أكاد أصدق أنّ هذا هو ما وصلنا من العراق الذي كان فنّانوه سبّاقين في المشاركات في المعارض العالمية المتخصّصة في فن برع فيه العراقيون منذ الستينيات.

■ هل من أفكار تطويريّة لمضمون الجائزة؟
الجائزة مشروع حديث الولادة. عرض مقترحه على رافع وعليّ من قبل الفنّان مظهر أحمد، أبرز تلاميذ رافع، وهو يقيم في السويد يدير مركز الحفر والطباعة في مدينة فالون. وكان قد جاء من السويد خصيصاً لحضور المعرض الاستعادي الكبير الذي أقيم لرافع الناصري في المتحف الوطنيّ للفنون الجميلة في عمان عام 2013، واقترح تخصيص جائزة للفنّانين الشباب، في وقت كان يمرّ فيه رافع بمرحلة حرجة من مرضه. بلغت سعادة رافع واستبشاره بهذا العرض أعلى درجاتها. وظلّ الفنّان مظهر يتابع معي تحقيق الحلم الكبير وإيصاله حدّ التنفيذ، يمدّني بمشورته وخبراته الغنيّة بعد رحيل رافع. وبدلاً من حصر الجائزة بالفنانين العراقيين، جعلنا الجائزة عربيّة، باقتراح من الفنّان الصديق ضياء العزاوي. أما عن تمويلها، فقد رأيت أن أسلك أيسر الطرق وأجعلها جائزة شخصيّة بمبلغ متواضع وبرعايتي. أطمح فعلاً إلى تطويرها مستقبلاً إذا ما سمحت الإمكانيات. ويسعدني أن أتلقى المشورة وأستأنس برأي الأصدقاء ولجنة التحكيم تحديداً، وهم من طليعة فنّاني الغرافيك في العالم.