بعيداً عن «الاستعراض»، يتّخذ فراس حاطوم منحىً مغايراً لإخراج «طبق استقصائي حاسم وناضج مدعوم بالأدلة والوثائق». مَن يشاهد حلقات برنامجه «استقصاء» على شاشة «أل. بي. سي» وطريقة إعدادها وعرضها، يدرك لمَ لا يكون البرنامج أسبوعياً أو حتى شهرياً كغيره من البرامج. الفاسد هنا يأخذ ما يطيب له من الوقت لارتكاب ما يحلو له من تجاوزات، وكشف فساده يتطلب السير وفق وتيرة المفسدين نفسها.

البرنامج الذي تنتجه شركة Shoot production (المملوكة من حاطوم نفسه) تناولت حلقته التي عرضت قبل أسابيع «عصابات الغش في الامتحانات الرسمية» (شاركت في إعدادها الزميلة فاطمة شقير). يحكى الكثير عن شائعة تسريب أسئلة الامتحانات الرسمية للشهادة المتوسطة والشهادة الثانوية وبيعها، إضافة إلى وجود أساتذة يتقدمون بالامتحان «نيابة» عن الطلاب وغيره ذلك من الأساليب. إلا أنّ أياً من الجهات الرسمية أو النقابية لم يثر الموضوع علناً أو يتحقّق منه.
بعد مراجعة
نقدية، اتخذ القرار بعدم كشف الوجوه
ما نجح فيه برنامج «استقصاء» هو فضح هؤلاء «المفسدين»، وتحديداً الأستاذ علي الذي يتولّى شخصياً أو عبر معاونين له عملية تزوير بطاقة الترشيح والتقدم بالامتحان عن الطالب، أو بعث أسئلة الامتحانات عبر الـ «واتس آب»، أو أن يقوم بـ»تنقيل» الطالب أجوبة الامتحانات عبر سماعة أذن صغيرة الحجم موصولة لاسلكياً بهاتف خلوي تجري عبره عملية التواصل. استطاع فريق العمل توثيق الطريقة الأخيرة في التزوير بمساعدة «أحمد»، أحد المتطوعين الذين أسهموا في إعداد الحلقة والإيقاع بهذا الأستاذ. كل وسيلة معتمدة في «الغش» لها «سعرها و 4000 $ هو المبلغ الذي طلبه الأستاذ علي من أحمد. عند مفاوضته على السعر، أجابه: «ما بتوفي معي». تتطلب هذه العملية تعاوناً أكثر من الأستاذ لحلّ أجوبة جميع الامتحانات، إضافة إلى دفع ثمن المسابقات المسربة من أحد موظفي وزارة التربية (أثبتت الحلقة تورط الأستاذ ميشال في قيام الأساتذة من مركز الامتحان بتسريب الأسئلة للأستاذ علي). وبينما تناضل هيئة التنسيق النقابية لتحصيل حقوقها المشروعة وتحاول حماية الشهادة الرسمية، وثّق «استقصاء» مساعيَ أخرى لأحد باعة الشهادات الرسمية العامل في إحدى مدارس ضاحية بيروت الجنوبية. نفى الأستاذ علي (موظف في الجمارك اللبنانية أيضاً) في أول اتصال أجراه أحمد به أنّه يمارس هذا النوع من الأعمال غير المشروعة. لكن بعد إصرار فريق العمل وملاحقته الحثيثة والجدية للملف، نجح في الإيقاع به. التوثيق بالصوت والصورة باستخدام تقنيات الكاميرا الخفية أو كاميرا الهاتف الذكي، لم يكونا أمراً سهلاً في هذه الحلقة أو الحلقات السابقة. المنهجية التي يتبعها البرنامج، تقضي بالوصول دائماً إلى خواتيم لا تحتمل التأويل ولا التشكيك. المسألة هنا ليست مجرد عرض لحالة بهدف إثارة جدل حولها. ما يتميّز به «استقصاء» هو تخطّيه مفهوم الاستقصاء، إذ يعرض الحلقة كإخبار للسلطات المعنية. بعد الانتهاء من مطاردة الفاسدين وتجهيز المواد البصرية والسمعية، يعرضها المعد الرئيسي للبرنامج فراس حاطوم، على المعنيين ويتابعها. في الحلقة الأخيرة، توجه إلى وزير التربية الياس بو صعب مقدماً كامل الملف، وقد وعده الوزير بمتابعته.
خلال الحلقة، هنّأ بو صعب الإعلامي اللبناني لحصوله على معلومات عجزت عنها الأجهزة الأمنية، ولم ينف علمه بما يحصل قائلاً: «عم يصير أكتر من هيك». الشهادة الرسمية بحاجة الى إعادة ترميم للخلل الحاصل في سبيل المحافظة عليها وفق بو صعب الذي يشرح خلال الحلقة أن هذا الخلل يشمل طرق تزوير أبشع من تلك التي وثّقها «استقصاء»، كأن يعطى الطالب داخل قاعة الامتحان ورقة امتحانات محلولة. وقد علمنا أن تحقيقاً قد فتح في القضية، وأخذت الإجراءات القانونية والاستدعاءات مسارها، ويتوقع أن تصدر نتائج في غضون أسبوعين، على أن يعلنها بو صعب في مؤتمر صحافي.
لم تظهر أسماء المفسدين الكاملة في حلقة «استقصاء» هذه المرة، وموّهت وجوههم بعكس الحلقات السابقة. هذه الخطوة اتخذها فريق العمل آخذاً في الاعتبار الوجهة الصحافية القائلة بوجوب عدم إظهار الوجوه بعدما كان ذلك سائداً في حلقات سابقة. لكن بعد مراجعة نقدية جريئة، انحاز فريق العمل إلى عدم إظهار الوجوه حماية للمحيط الاجتماعي للفرد ولأي عقوبة معنوية وارتدادات ستطاوله مع عائلته وأولاده. يقول حاطوم لـ»الأخبار»: «ضميري مرتاح بهذه الطريقة. نتابع مع المعنيين لنحاسب الفاسدين، لكنّنا استبعدنا كل ما قد يتخذ منحىً شخصياً تجاه أحد».




الفساد عادة في لبنان

ما يزعج فراس حاطوم أنّ كشف الحقائق وتوثيقها والتعرض لبعض المخاطر لإنتاج عمل متكامل، لا تؤدي دوماً إلى محاسبة الجناة، أو تغيير ثقافة محاربة الفساد «الضعيفة» في لبنان. بعد عرض الحلقة الأخيرة من «استقصاء»، يروي حاطوم ساخراً أنّ بعض معارفه اتصلوا به طالبين رقم الأستاذ التاجر للإفادة منه! كذلك، إنّ حلقات البرامج التي تحتاج إلى كل هذه الجهود، لا تجري جدولتها ضمن البرامج الأساسية، فـ»البرايم تايم» على الشاشات مخصص للبرامج الأسبوعية. هذه إحدى المشاكل التي تواجه «استقصاء»، إلا أنّ القنوات اللبنانية بدأت تتقبل فكرة البرامج الاستقصائية المعدة والمنجزة خارج إطار استوديو التصوير واستقبال الضيوف وفق ما يشرح حاطوم، «ما قد يبشر خيراً».