في أول عام يدخل فيه الكتّاب الأميركيون إلى سباق «مان بوكر» (أو «بوكر»)، لم يطرأ تغيّر كبير. مر فوز الروائي الاسترالي ريتشارد فلاناغان (1961) بالجائزة (50 ألف جنيه استرليني) عن روايته The Narrow Road to the Deep North بهدوء ومن دون ضجيج. لم يتكرر جدل «نوبل» الأخير؛ القائمة القصيرة لا تزال محافظة على ألقها. بوسع القراء دوماً التأكّد من سويّة الروايات الست المرشّحة سنوياً، لكن قد يُثار بعض النقاش بشأن الرواية التي تستحق التتويج فعلاً، كما حدث في «مان بوكر» للكتابة باللغة الإنكليزية العام الماضي.
ربما كان سيتفجّر الجدل والنزاع لو فاز أحد الكتاب الأميركيين الوافدين حديثاً إلى القائمة القصيرة، لكن سطوة الكومنولث بقيت حاضرة، لتكرّس أهمية الأدب المكتوب بالإنكليزية، أدب المستعمرات خصوصاً.
ضمت القائمة القصيرة هذا العام تنوّعاً كبيراً في الجنسيات والعوالم الروائية وتوجّهات الكتّاب. لم يتحقق حلم الاسكتلندية ألي سميث (1962) للمرة الثالثة. عنوان روايتها هذا العام «كيف تكون الأمرين معاً» بدا بعيداً عن واقع كاتبته، إذ ارتبط اسمها بالقائمة القصيرة لأهم جائزتين للأدب الناطق بالإنكليزية: ثلاثة ترشيحات في «مان بوكر»، وترشيحان في «أورينج» من دون أن تفوز بأيٍّ منهما. أكبر المرشّحين سناً هو البريطاني هوارد جاكوبسون (1942)، حظي بالجائزة عام 2010 عن روايته «مسألة فنكلر»، وكان ثمة توقّعات كبيرة هذا العام بفوز روايته «J»، لكنه بدا راضياً بفوز صديقه فلاناغان. تكرّرت مفارقة العنوان في رواية الأميركي جوشوا فيريس (1974)، أصغر المرشّحين سناً. بدا كأن «أن تنهض مجدداً في ساعة معقولة» جاءت في وقتها، لتكرّس حضور الأدب الأميركي الجديد في الجائزة البريطانية الأبرز. أدب «البست سيلر» بهويّته الأميركية الصارخة سيكون حاضراً بقوة في السنوات المقبلة.
روايته الفائزة مستوحاة من
سيرة والده خلال الحرب العالمية
ولذا كان طبيعياً ترشّح الأميركية كارين جوي فاولر (1950) عن روايتها «إننا جميعاً بجانب أنفسنا كلياً»، التي نالت جائزة «بن/فوكنر» لهذا العام، إذا تذكّرنا أنها صاحبة الرواية الشهيرة «نادي كتب جين أوستن» (2004). خامس المرشحّين هو الهندي نيل موخيرجي (1970) الذي حضر بقوة في الترشيحات ليعيد للأدب الهندي ألقه عن روايته «حياة الآخرين». يومئ الحضور الهندي القوي في «مان بوكر»، «أورينج»، و«بوليتزر» بأن السنوات المقبلة ستكون هندية بامتياز، وبأن الفائزين السابقين ليسوا سوى قمة جبل الجليد المندفع بقوة إلى المشهد الروائي العالمي.
ريتشارد فلاناغان ليس مجهولاً في الساحة الأدبية. يعدّه النقّاد الأستراليين أفضل روائي أسترالي ضمن جيله، كما أنه معروف ضمن مشهد أدب الكومنولث. نالت روايته «كتاب غولد عن الأسماك» (2001) جائزة «كتّاب الكومنولث» التي تبدو بوصلةً بنسبة كبيرة لما يمكن أن تكون عليه «مان بوكر». يبدو هادئاً في حياته الروائية والواقعية في آن واحد. كان شديد التواضع في كلمته التي ألقاها بعد فوزه بالجائزة من دون أن يخلو كلامه من صرامة شديدة بشأن عملية الكتابة: «الروايات حياة أو لا شيء... أن تكون كاتباً يعني رحلة نحو التواضع. يعني أن تُهزَم من أمور أكبر حتى». ويبدو في روايته السادسة The Narrow Road to the Deep North الذي اقتبس عنوانها من قصيدة للشاعر الياباني البارز ماتسوو باشو، كأنه يدرك خيوط الحياة بأسرها. هذه الرواية التي تعدّ تحيّة إلى والده، مستوحاة من تجربة هذا الأب كأسير خلال الحرب العالمية الثانية لدى الجيش الياباني. إنها قصة دوريغو إيفانز وحبه لإيمي. إيفانز الطبيب الجراح الذي يعتقل في مخيّم للعمل على خط السكك الحديدية بين تايلاند وبورما، المعروف بـ «سكة الموت»، يحاول مساعدة الرجال الذين يواجهون الجوع والموت والكوليرا والضرب هناك. خلال الحفلة التي أقيمت في لندن أول من أمس، وصف رئيس لجنة التحكيم أنطوني غرايلينغ الرواية بـ «بالعمل العظيم حول اثنين من أهم مواضيع الأدب في العالم: الحب والحرب»، مضيفاً أن «هذا هو الكتاب الذي ولد ريتشارد فلاناغان من أجل كتابته».
بعيداً عن جدل دخول الكتّاب الأميركيين إلى «مان بوكر» للمرة الأولى هذا العام، وتصريح فلاناغان «أشعر بالعار كوني أسترالياً» الذي احتل مانشيتات الصحف في اليوم التالي، والمرتبط بنشاطه البيئي وبمعارضته الصارمة لسياسات حكومته بشأن دعمها لمناجم الفحم، ليس ثمة مفاجأة في «مان بوكر» هذا العام. لا تزال هي الجائزة الأكثر أهمية عالمياً التي تمضي بهدوء واثق لتكرّس حضور أدب الكومنولث في القوائم القصيرة التي يمكن اعتبارها، بقدر كبير، مؤشراً مهماً إلى خارطة الأدب العالمي.




ناشط بيئي

يكتب فلاناغان بانتظام في الصحافة الأسترالية والعالمية في مواضيع الأدب والسياسة والبيئة. إلى جانب حضوره الأدبي الكبير، ينشط في قضايا حماية البيئة، فهو عضو في مجلس إدارة معهد «فويسْلِسْ» المهتم بحماية الحيوانات، كما أُطلق اسمه على منعطف نهري «فلاناغان سوربرايز» في محميّة «فرانكلن ريفر».