تنتصب بعض القصص على ركام المُجتمعات، وتأخذ من ثنائيّة الأم والابن/ة إطاراً للّعب على تيمات اجتماعيّة تستمد قيمتها من واقعيّة الحكي وحركته المنطقية الخاضعة لقواعد العالم الداخلي ولا تحاول تغييرها على مستوى أكثر عمومية، بل تتحدّاه في مساحة أكثر خصوصية تتعلق بالأشخاص أنفسهم وطريقة تعاطيهم مع الواقع المَعيش وخلق الدراما، سواء عن طريق كسر القواعد أو التحايل عليها بأساليب مُباشرة ومبسّطة تتماشى مع مستواهم الطبقي والثقافي، وتمنحهم القُدرة على مُجانبة الخصومة أو تأجيلها. من تأليف وإخراج آي في روكويل، يدور فيلم «ألف وواحد» (A Thousand and One ــ الذي حصد جائزة لجنة التحكيم الكبرى في «مهرجان صاندانس السينمائي») حول إينيز (تيانا تايلور) وهي شابة في بداية العقد الثاني من عُمرها، تختطف ابنها تيري من نظام الرعاية البديلة Foster care (يقوم بدوره ثلاثة ممثلين في أعمار مختلفة الطفل آرون، والصبي أفين كورتني والشاب جوسيا كروس) ليخوضوا رحلة كفاح من أجل العيش في ضواحي حي هارلم في نيويورك المُتغيّرة والمتهالكة في آن. ينطلق الفيلم من قرارٍ مصيري أوّلي لإينيز، حين تُقرر أخذ طفلها وتغيير هويّته في مُحاولة لبناء ما يُشبه الأسرة، خصوصاً بعد توحدها مع حبيبها لاكي (ويليام كاتليت). ترصُد المُخرِجة مراحل بناء تلك العلاقة خلال تقدّم الفيلم، من الاضطراب على كل المستويات المعيشية والعاطفية والمادية، إلى الاستقرار بشكلٍ ما والانتقال إلى مرحلة أخرى ينضج فيها الولد ويبدأ بطرح الأسئلة والبحث عن إجاباتها. والحقيقة أن انخراط تيري داخل المجتمع باسمه المُستعار وهويّته المزيّفة التي لا يعي عنها شيئاً، يجعل من الصعب تخيّله في مكانة أفضل على المستوى الاجتماعي، فالهويّة المتغيّرة لمدينة نيويورك والإجراءات المتعنّتة ضد الأفارقة الأميركيين، ما ترصده المُخرِجة في لقطات عدة أشبه بلقطات توثيقية والدفع بشريط الصوت ليكون مُحرِّكاً للسرد بخطبة مُسجلة لعُمدة نيويورك والإجراءات التي طبّقها في أوائل الألفية الثالثة... تلك الأدوات ترسم ملامح الشكل الخارجي، وتوضح ماهيّة التركيب الداخلي للمُنتج الإبداعي، كتركيب غرضه الأول وهو الاشتباك مع الهم الاجتماعي وكشف تأثير التغيّرات على حياة المواطنين المهمّشين من حيث السلوك وأنماط العلاقات.لم تعد إينيز بمُفردها، ولا تتعاطى مع العالم من منظور فردي، تشبك يدها اليُمنى في يد ابنها، والأخرى تُمسك بحقيبة العدّة وأدوات تصفيف الشَّعر، وتحاول جاهدة العودة إلى حرفة تصفيف الشعر وتدبير ما يُمكن تدبيره من نفقات لكليهما، فتبدأ بالحركة للعمل مع بعض الزبائن والمحلّات، بحيث تُكرّس معظم يومها في العمل. يتعامل الفيلم مع نموذجين: نموذج الفرد الأسود المُهمّش في أحيائه ومنازله المتواضعة، فيما النموذج الأبيض يظهر كنموذج سلطويّ، غازٍ ومُقتحم حتى للمساحة الخصوصية والفردية للفرد الأسود. وهذا يظهر في حركة شراء العقارات في حي نيويورك من قِبل الطبقة المتوسطة البيضاء، وميلهم إلى إزاحة الجماعات والأفراد السود بطرُق ملتوية، مثل التظاهر بإصلاح وتجديد المنزل، وتخريب بنيته التحتيّة بطريقة خفية تتطلب مدّة كبيرة من الزمن لإصلاحها، فيضطرون إلى البحث عن سكن آخر أو المكوث في شقق أقاربهم، حتى أن إينيز خلال الفيلم، لم تتلقَّ المُساعدة من أي شخص أبيض، رُبما لطبيعة المُجتمع آنذاك، فالأحياء ذاتها تغلب عليها شريحة الأفارقة الأميركيين.
كل هذه المساحات والتغيّرات تؤثّر على شخصيّة تيري، الذكي الخجول، فيظهر مُضطرب الشخصيّة نوعاً ما، غير قادر على تحديد الصواب أو تكوين رؤية للمستقبل، وهذا ما يمنح الفيلم شعوراً حقيقياً، فالمُقدمات المذكورة تؤدي إلى نتائج حتمية، والحقيقة أن الممثلة تيانا تايلور، قدّمت واحداً من أفضل أداءات العام، بل حملت الفيلم كلّه على ظهرها، رغم خبرتها القليلة التي اكتسبتها من خلال العمل كموديل في كليبات الأغاني الشهيرة وبعض الأدوار في أفلام تلفزيونية مهمّشة. هكذا، ملأت الفيلم بحضور حقيقي، موازٍ للواقع بشكلٍ يمنح الفيلم التركيب والثِقل المطلوب.
بيد أن اختيارات المُخرِجة على مستوى الامتداد القصصي لم تكن جميعها مُفيدة، فالثُلث الأخير في الحكاية هو أكثر مواضع القصّة هشاشة، لأنه اعتمد على مُداهمة المُشاهد بتغيير غير متوقع في الأحداث، ليهدم جزءاً من بنيته القصصيّة بلفتة تفتقد إلى الدوافع والمُحفّزات المطلوبة على مستويات عدّة، رُبما يخلق لها المُشاهد مُبررات داخليّة تخص الشخصية لم تفصح عنها التكوينات الخارجية لشخصية إينيز، ولكن هذا لا يكفي ليُنقذ الفيلم في ثلثه الأخير، فبعد الكثير من التأسيس في اتجاه واقعي مميّز، وثقل الأفكار والأشكال والمنهجيّة والخطاب السينمائي للفيلم، يرجع ليخلق انحناءة سرديّة لا تخدم الدراما بقدر ما تأخذ الفيلم في حيّز النوعية التشويقية التي يحبها الجمهور، ويمنح الفيلم دفعة أخيرة للإكمال، ولكن في الحقيقة أن الحركة الأخيرة أضعفت من الفيلم كشكل ومُنطلق مهموم، وخفّضته إلى مرتبة أقل.