جيل الثورة من الفلسطينيين لا يعرف اسم مارك رودين (1945 ــ 2023) الذي رحل قبل أيام، لكنه يعرف «جهاد منصور». وإذا لم يعرف البعض الاسم، فإن رسومات الفنان السويسري المقاوم تربّعت على عرش ملصقات الشهداء والثورة التي زيّنت معظم شوارع المخيمات والمناطق التي سكنها فلسطينيون ومعظم من أيّدوا الثورة الفلسطينية وحقّها بالمقاومة. رودين السويسري الجنسية والأصل، اختار لنفسه اسماً حركياً مشتقاً من أصل الفكرة في عقله: جهاد منصور، كأحد أصدق وأعلى الأصوات التي «عولمت» الثورة الفلسطينية وقدّمتها كثورة محقّة وقدّمت شعبها كأسطورة حقيقية للمقاومة.
مارك رودين ـ 1980 ــ موقع «أرشيف ملصق فلسطين»

تقرّب رودين الذي درس الرسم (والرسم الغرافيكي)، من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في ستينيات القرن الماضي، وحارب في صفوفها في سبعينيات القرن الماضي، كانت له صولاتٌ وجولات في أوروبا، حتى إن بعض المصادر تشير إلى أنه اشترك في «هجماتٍ على مصارف» في أوروبا لتأمين مصادر دخل للثورة الفلسطينية. وإثر ملاحقة الأمن السويسري له، والتضييق عليه، سرعان ما شدّته عواصم المقاومة كبيروت ودمشق، فقرّر الانتقال إلى لبنان، ولاحقاً إلى دمشق بعد الاجتياح الصهيوني لبيروت عام 1982. سكن في مخيمات صيدا، التي وصلها أولاً من سويسرا عبر مينائها. هنا أثبت الشاب الوسيم الأبيض البشرة، ذو اللحية الكثّة، أنه أفضل من صمّم البوستر الفلسطيني وأعطاه سحره. رسم قرابة 200 بوستر لتأريخ وتثبيت الثورة الفلسطينية التي كان عودها قد اشتدّ، وقدّمها كثورةٍ حضارية مثقّفة تمثّل شعباً حراً واعياً. يومها، أفاد رودين الثورة الفلسطينية في اتّساع رقعة تأثيرها وانتشارها، وخصوصاً بين أوساط اليساريين في أوروبا الذين لم يكونوا يعرفون الثورة الفلسطينية إلا عبر نشرات الأخبار. ثم غادر رودين العاصمة السورية في عام 1991.
أرّخ رودين للثورة الفلسطينية، ورسم منذ لحظات وصوله ذلك المزيج بين الثورة، الإنسان، والمقاومة، فضلاً عن العائلة. أتت غالبية لوحاته محمّلة بأجواءٍ خاصة اعتمد فيها تكثيفاً للمعاني وإن لم تغب عن باله نقاط رئيسية: المباشرة، البساطة، البراءة، وبالتأكيد الفعل المقاوم، سواء بالبندقية، أو حتى بنظرة عينَي الشخصية المرسومة. أبّن رودين الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني إبّان استشهاده عام 1972، وخلّده ببوسترٍ شهير لا يزال حتى اليوم جزءاً أساسياً من الذاكرة الفلسطينية. ثم عاد ورسم كنفاني، في ساحة بلدته السويسرية بعد عودته إليها مخلّداً صديقه المقاوم في جداريةٍ كبيرة هناك. في الوقت نفسه، لم ينسَ الثورات الشعبية المقاومة التي دعمت الشعب الفلسطيني، فرسم لوحاتٍ وملصقاتٍ تدعم الثوار في كوبا والسلفادور ودول أميركا اللاتينية والشمالية، مؤكداً «وحدةَ المسار والمصير» بين هذه الشعوب التي تقاوم الامبريالية. شارك في مئات المعارض الداعمة لفلسطين، واشتهر باسم «جهاد منصور» أكثر من اسمه الحقيقي؛ وحتى اللحظة يمكن اعتبار رودين واحداً من الأسماء الحركية الأشهر لا لشخصٍ فحسب، بل للقضية الفلسطينية عموماً.
تعرّض رودين لتجربة الاعتقال والأسر بعدما ألقت الشرطة التركية القبض عليه عام 1991، وأبقته في سجونها لمدّة عامٍ ونصف عام، لتعود وتسلّمه لاحقاً إلى الدنمارك التي كانت تلاحقه بتهمة تنفيذ عمليات لصالح الجبهة الشعبية. يومها، حوكم للمرة الثانية وسُجن لثمان سنواتٍ كاملة، ليعود بعدها إلى سويسرا. لم يتوقف رودين حتى وفاته عن دعم القضية الفلسطينية، ونُقلت عنه جملة بعد خروجه من الأسر: «لست أندم على شيء يا فلسطين».