قرّرت الروائية الفلسطينية سلوى البنا أن «تصدمنا بصفعة ولكن برقَّة وشفافية» في تعريفها لعملها الأدبي الجديد «أصل الغرام نسمة» (دار الفارابي). والصدمة تأتي من «سطور هذه الرواية اللارواية» كما تذكر ، ولأنها حاولت في سطورها تسليط الضوء على «إشكالية العلاقة ما بين فلسطين ولبنان والتي لها نكهة خاصة متفرّدة».رواية البنا ليست عملاً توثيقياً، أو أرشفة لهذه العلاقة التي تأرجحت ما بين حب واحتضان وبذل دماء شهداء من جهة، وبين قتل وعنصرية من جهة أخرى، ولا حتى مروراً بالحرب الأهلية وتداعيات الوجود الفلسطيني من ضمنها، لكن كانت محطة اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 بداية كلام البنا، وعمليات المقاومة متنها، واستشهاد بعض أبطالها على درب تحرير فلسطين واحداً من عناصر الرواية.


لقد أرادت سلوى - أو هكذا نستنتج - عندما ننتهي من قراءة 183 صفحة من الحجم الصغير، أن تقدم لنا حلماً أصاب بطلي عملها وهما الدرويش ونسمة يافا، على أن تترك الخيال لأحلامنا بتخمين ما أرادت التصويب عليه. تصويب على علاقات لأشخاص تفتقد حسها الإنساني دعساً تحت أولوية مصالحها، لأن «الإنسان جوهر لا مظهر، وأن العناوين غالباً لا تشي بالمضمون»، أو تصويباً على ترفّع نبيل لخدمة أهداف مثلى كما سلكها الدرويش، بما فيها اقترابه وابتعاده في آن من حب نسمة.
إذاً، لم تتردد الروائية أن تحذرنا منذ البداية بأن «ثنائية العشق ما بين الدرويش ونسمة، ليست رواية مُتعة كما يتبادر إلى ذهن القارئ». إنها قصة شاب من مدينة بعلبك وابن وحيد بعد نصف دزينة بنات لرئيس البلدية، وما رافق يوم ولادته من ذبائح وولائم وعادات اجتماعية تقليدية تقتضي إطلاق الرصاص ابتهاجاً «وإذا ما قوّصنا لابنك سيدنا لمين بدنا نقوّص»، وبين فتاة مُصرّة على تسمية نفسها بنسمة يافا كما أسمتها جدتها بالرغم من تنمُّر زملائها في المدرسة الخاصة (اللبنانية) التي دخلتها، وليس في مدرسة الأونروا في المخيم. هذه العلاقة التي انبنت بتكليف من ابنة معالي رفعت الحاج منافس الدرويش محمد السعد في الترشح للانتخابات البرلمانية، عبر وظيفة سكرتيرة عملت على تأمينها لنسمة بهدف التجسس على الدرويش لإسقاطه. هذا الدرويش الذي اختار حياة التشرد والعذاب بديلاً لتقديمات والده، وكانت فلسطين والرفاق خياره.
نسمة ابنة الشاعر الفلسطيني سليم عواد الذي «ثُبّتت خارطة صغيرة لفلسطين مصنوعة من البرونز على باب بيته»، ربطته علاقة ثقة وصداقة ونضال مع الدرويش لم تكن تعلمها نسمة يافا ولم تدركها. ومثلها في العلاقة التي نثرتها الروائية البنا على شكل شيفرات عن طبيعة العلاقة التي جمعت نسمة يافا والدرويش. على مدى صفحات تركت للقارئ ذهنية التخمين المُراوحة ما بين خيانة وعلاقة حب، مؤامرة أو بلاهة شابة كأنها لا تجيد سوى طباعة مذكّرات الدرويش على الكمبيوتر، إضافة إلى تعلقها بجدتها انشراح التي ترى فيها «الخرزة الزرقاء التي رح ترد العين عن ولادك» في تخاطب أمّ سليم مع ابنها الشاعر سليم يوم سجّل نسمة في دائرة النفوس التابعة للاجئين الفلسطينيين.
ما يشبه تتالي الأوراق اليومية، الأسلوب الذي اعتمدته البنا في سرد بعض نتف تلك العلاقة التي حكمت شعبين، وبعض من يوميات بطلي النص. يخاطب الدرويش نسمة يافا قائلاً: «بما لم تكوني قد ولدتِ بعد، حين انسحب العدوّ الصهيوني من بيروت. لكنّي واثق أنّك تحتفظين بكل تفاصيل تلك الأحداث ومشاهدها داخل رأسك الصغير. فالنطفة الفلسطينية وحدها تحمل هذه المعجزة. تنمو داخل الأرحام بذاكرة مكتملة لكل من سبقها من أجيال. ووحدها لها شفافية البياض (118)». واصفاً لها «تلك اللحظة التي وقف فيها على أطلال أحلامه في مشهد بكت له العاصمة بيروت. أكثر من منعطف حافل بمرارة الانكسار والخذلان». ويتابع: «الواحد والثلاثون من شهر آب سنة 1982 تاريخ سيبقى محفوراً في ذاكرتي ما حييت. ذاك المشهد الموجع يا نسمة أطفأ في داخلي شعلة الحياة. وتركني أتخبّط كسمكة انتُزعت توّاً من حضن الماء. فأغلقتُ كل الأبواب من حولي. وتركتُ نفسي طُعماً تنهشه الخيبة وسط ألف سؤال وسؤال». الدرويش الذي اختزن حباً لنسمة احتضنها في لحظة حنان وقال لها: «حسن أريد لون عينيه بلون عينيك تماماً» ولماذا حسن؟ سألت؟ دونما جواب، إلا من ذاكرة قادته إلى بعلبك.