في بلد تسرَّبت فيه الانقسامات على أنواعها إلى أصغر تفصيل فيه حتى أصبح تقديم السَّاعة يُنذر بحرب أهليَّة، وفُتحت أبوابه دوماً أمام مؤامرات خارجيَّة تستهدف كل مرَّة شريحة محدّدة من أهله تحت عناوين سياسيَّة أو دينيَّة أو اقتصاديَّة أو غيرها، تصبح مفهومةً تماماً الريبة المتعجّلة والتوجّس الاستباقي وسوء الظنّ المبالغ به، ولو وصل ذلك إلى حدّ تحميل مشهد في مسلسل تلفزيوني وِزر خطاب فتنويّ بغيض قائم على ثنائيَّة «نحن وهم» وشعار «لا يشبهوننا».في الحلقة العاشرة من مسلسل «النار بالنار» (كتابة رامي كوسا، وإخراج محمد عبد العزيز، وإنتاج «الصبّاح إخوان»)، الذي يتناول بشكل جريء قضية النزوح السوري إلى لبنان وتبعاتها وما رافقها من سلوكيات عنصريَّة لبعض اللبنانيين، يظهر مزوّر جوازات السفر اللبناني «النقاش» (عدي رعد) طالباً من السوريَّة مريم (كاريس بشار) التخلّي عن «غطاء رأسها» كي يلتقط لها صورة شخصيَّة لزوم الجواز المزوّر الذي يعدّه لها، معللاً ذلك بالقول إنها لن تبدو في الصورة «لبنانية» بغير ذلك. تتجاوب مريم بعد إشارة من مرافقها عمران (عابد فهد) الذي يحاول في المشهد التالي التخفيف من وقع الحادثة عليها والتقليل من شأنها فيقول لها إن هذا «أأمن»!
سرعان ما تناقل ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يظهر المشهد المذكور، منتقدين ما يوحي به من استسهال لخلع الحجاب أو ربما «تشجيع عليه»، ومصوّبين على تفاصيل بعينها، مثل استخدام تعبير «غطاء الرأس» بدلاً من الحجاب من قبل «النقاش»، وكلمة «أأمن» التي وردت على لسان عمران وفُهِمَ منها أن المرأة توحي بالأمان للآخرين إذا كانت غير محجبة، فضلاً عن الإيحاء بأنَّ الحجاب في لبنان أمر غريب وعلامة فارقة تظهر أن صاحبته ليست مواطنة من هذا البلد. المرتابون اعتبروا أيضاً أنّ ما يعزّز ذلك كله أنّ المسلسل أُنتج لصالح mbc التي يرى المنتقدون أنَّه سبق لها تمرير رسائل غير بريئة بحقّ شريحة لبنانية وازنة في أحد أعمالها التي أُنتجت في الماضي القريب. في المقابل، هناك من رأى في الاعتراض مبالغةً في سوء الظن، وتحميلاً لمشهد مقتطع من سياقه أكثر مما يحتمل، فرسالة العمل تقوم على رفض العنصريَّة تجاه النازحين السوريين التي تتجلى في شخصيَّة عزيز (جورج خباز)، ولا يصحّ أن يقع في مطبّ عنصريّة من نوع آخر، ومحاكمته لا يفترض أن تنطلق من مشهد مجتزأ بل من متابعة متأنية لمجمل الحلقات، وما تنطق به شخصيَّات المسلسل في حواراتها لا يمكن أن يعبّر كله عن وجهة صنّاع العمل لما فيه من آراء متناقضة. أما طلب «النقاش» من «مريم»، فلم يرِد في سياق يُفهَم منه تمجيد الشخصيَّة وامتداح سلوكياتها وتبنّي منطقها، بل يعبّر عن الشخصيَّة ومن يحمل فكرها ونظرتها إلى الحجاب، وهم كثر بيننا، وليس شرطاً أن تكون هذه النظرة متوائمة مع نظرة كاتب العمل أو مخرجه. أما «عمران» الذي استخفّ بالأمر وهوَّنه على «مريم»، فهو ليس سوى انتهازي مستغل بحسب المسلسل، ولا ينبغي أن يتوقع المشاهد منه رداً يختلف عما قاله. ومن المحتمل أن يكون صنّاع العمل قد أضافوا الحجاب إلى شخصيَّة مريم لإضفاء المزيد من الواقعيَّة، على اعتبار أنَّ نسبة كبيرة من النازحات هنّ من بيئات محافظة ويضعن الحجاب، ثمَّ قرروا أن تكمل كاريس بشار دورها بلا حجاب لسببٍ ما قد يكون دراميّاً أو تسويقيّاً أو غير ذلك، وطبعاً لم يكن ممكناً تفويت فرصة الإفادة درامياً إلى الحدّ الأقصى من هذا التحوّل عبر جعلها مجبرةً على خلعه من شخص آخر.
أعلن رامي كوسا براءته تماماً من كل كلمة في الحوار الدائر في هذا المشهد

وربّما كان بالإمكان أن يتمّ الأمر بصورة أكثر سلاسة، كأن يبرّر «النقاش» طلبه بوجود جواز سفر جاهز لديه ولا ينقصه إلا لصق صورة مريم عليه، لكن اسم صاحبته يدل على كونها مسيحيّة، بحيث يصبح من غير المنطقي أن تكون محجّبة ويصير لزاماً على مريم خلع حجابها، وهو ما طرحه الكاتب رامي كوسا في منشور له على صفحته الشخصيَّة على فايسبوك (بعد عرض الحلقة وحصول الجدل) أعلن فيه براءته تماماً من كل كلمة في الحوار الدائر في هذا المشهد.
في المحصّلة، يندرج هذا المسلسل ضمن الأعمال التي تضع هاجس المشاهدة على رأس أولوياتها، لكن ربما على المشتغلين في الإنتاج الدرامي، في هذه الحالة، الاعتناء بتفاصيل أعمالهم أكثر لتكون مراعية للجمهور المتلقّي. أما إذا كان الأمر غير ذلك، فربما ينبغي لهم أيضاً امتلاك الجرأة الأدبيَّة والمجاهرة بأنَّ رسالة العمل ورؤية كاتبه ومخرجه ومنتجه هي انتقاد الدين مثلاً أو المظاهر الدينية لجماعة معيّنة بدلاً من اللجوء إلى طرق التفافيَّة. أما الجمهور، فدوره في التصويب أساسي وحقه في النقد والاعتراض محفوظ شرط أن يعرف أنَّ الحكم على أي عمل سواء من ناحية تقييم مستواه الفني أو من ناحية الاعتراض على رسائله، لا يكون حتماً من خلال مشهد واحد معزول عن سياقه!

* «النار بالنار»: س: 20:30 على LBC ـــ وMBC و«شاهد»