يدرك القيّمون على «مركز بيروت الدولي» القاعدة التي تقول إنَّ التوقف المؤقّت في مجال الإنتاج الفني موتٌ أكيد. لذا يحرصون على تقديم عمل درامي سنويّاً بصرف النظر عن الإمكانات التي قد تتفاوت بطبيعة الحال بين عام وآخر. تفصيلٌ لا يدركه قسم من الجمهور، لا يقبل بأقلّ من منافسة نتفليكس بمعزل عن أيّ اعتبارات أو تفاصيل.وإذا كان بعض التشابه في أجواء الأعمال التي ينتجها المركز سنوياً وتعرضها شاشة «المنار» أمراً لا بدّ منه في ظل التزام المركز وإنتاجاته بقضية محدّدة وُجِدَ في الأساس لمناصرتها والدفاع عنها، فإن القيّمين عليه لا يألون جهداً في محاولة التجديد والتنويع على كل المستويات، وهو ما يظهر في جديد «مركز بيروت» لهذا العام، أي مسلسل «لحن البحر» الذي تركت حلقاته الأولى انطباعات جيّدة، مع مؤشرات إلى تصاعد الحدث نحو ذروته في الحلقات المقبلة على أكثر من خط من خطوط العمل. المسلسل يشهد تعاوناً للمرَّة الأولى مع الكاتب السوري محمود الجعفوري، والعودة إلى محمد وقاف في الإخراج، هو الذي سبق أن تمَّ التعاون معه في مناسبات عديدة وأصاب نجاحاً ملموساً، فضلاً عن الاستعانة بعدد من نجوم الصف الأوَّل أطلّوا عبر «المنار» في أعمال سابقة قبل أن يغيبوا في الأعوام الأخيرة، مثل عمّار شلق ويوسف حدّاد وفيفيان أنطونيوس ورانيا عيسى ونيكولا مزهر. أما على صعيد الموضوع، فإنَّ «لحن البحر» يتناول للمرَّة الأولى أيضاً معاناة شريحة وازنة من الجنوبيين في ظل الاحتلال لم يسبق التطرّق إليها من قبل، وهم صيّادو الأسماك في المناطق الساحليَّة المحاذية للشريط الحدودي. ومن المفارقات أنَّ هذا العمل يأتي في ظل تجدّد الصراع البحري بين المقاومة والعدو من زاوية الترسيم.
الحقبة التي يضيء عليها المسلسل، لم تأخذ حقها في الإنتاجات السابقة. بعد «الغالبون 1» و«الغالبون 2» اللذين تناولا حقبة الثمانينيات ومطلع التسعينيات، و«درب الياسمين» (1996 – 1999)، و«بوح السنابل» (تموز 2006)، و«ظل المطر» (2019)، ومسلسلات تاريخيَّة تناولت زمن الاحتلالين العثماني والفرنسي، يأتي «لحن البحر» ليحتفي بأهم إنجازات المقاومة وهو تحرير الجنوب والبقاع الغربي. تبدأ أحداثه في عام 1999 وتنتهي مع أفراح التحرير في عام 2000، وهي تدور في قرية متاخمة للشريط المحتل وللبحر في آنٍ واحد، يعتاش معظم سكانها من الصيد ويمتلك كل منهم «فلوكة». وفي طليعة هؤلاء يأتي «أبو علي» (يوسف حداد) و«أبو حسن» (عمار شلق) النازحان من «رويسة الورد»، اللذان يشكّلان ثنائياً متناغماً لا تنتهي مناكفاته ذات الطابع الكوميدي. ولا يحتاج المتابع إلى مشاهد كثيرة كي يتبيَّن علوّ كعب الثنائي وتقمّصهما شخصيّتيهما بإجادة وإن شاب أداءَهما للهجة الجنوبيَّة بعضُ المبالغة التي تبقى مفهومة في ظل الاتكال على اجتهاد الممثل وفي غياب «مراقب لهجات» حاضر بشكل دائم في مواقع التصوير. ثنائي آخر لا يقل توهّجاً وتناغماً هو محمد فوعاني ومحمد شمص. يمكن القول إنَّ شخصيَّة العميل «منير» هي الفرصة الحقيقيَّة التي استحقّها فوعاني خرّيج معهد الفنون الجميلة وتأخّرت قليلاً، فلم يتأخر في استغلالها بأفضل طريقة حين لاحت له. أما شمص، فإنَّ اجتهاده الشخصي في صناعة «الكاركتير» الخاصّ بأي دور جديد له لا يخفى على المشاهد وهو أوضح ما يكون في شخصيَّة «وحيد» الساذج والبسيط الذي يستغلّه منير ويحاول تجنيده. الثنائي الثالث الذي لفت الأنظار يضمّ فيفيان أنطونيوس ودايزي غاوي («أم سعاد» صاحبة الفرن وابنتها المريضة «سعاد»)، حيث يعود إلى الواجهة فجأة اتهام الأم بقتل والد منير المرابي الذي حاول الاعتداء عليها في حادثة حصلت قبل زمن طويل. مساحة كبيرة يفردها المسلسل للإطلالة على معاناة الأسرى في معتقل الخيام، وأبرز هؤلاء حسن (طارق أنيش) الابن الأكبر لأبي حسن. ويبرع في أداء أدوار العملاء في إدارة المعتقل كل من حسن فرحات وأسامة المصري ومحمد شرف وحسن صبّاغ ومحسن قمر الدين، بينما يطل سعد حمدان مرَّة جديدة في دور ضابط إسرائيلي مستعيداً نجاحه في «ظل المطر»، مع غياب الحوارات باللغة العبريَّة التي شكّلت علامة فارقة في العمل المذكور.
الابن الثاني لأبي حسن هو غالب (مهدي فخر الدين) الذي يخفي عمله في المقاومة عن الجميع بمن فيهم والده، ويرغب بالزواج من هاجَر (سينتيا محسن) ابنة «أبو علي»، وهو دور اعتاده مهدي في أعمال «مركز بيروت»، لكنّ الممثل المجتهد لم يغرق نفسه في فخ التكرار، ويمكن للمشاهد أن يلمس مدى اشتغاله على موهبته وأدواره عملاً تلو آخر.
ومن اللافت أنَّ أسماء سبق لها الإطلالة في أدوار رئيسيَّة في أعمال سابقة لـ«مركز بيروت»، وافق أصحابها على الظهور بأدوار ذات مساحة صغيرة أو كضيوف شرف (علي سعد، جهاد ياسين، حسن حمدان وربيع الحاج على سبيل المثال). ويعود السبب في ذلك – فضلاً عن اقتناع هؤلاء بقدرتهم على تقديم الأفضل وترك أثر لدى المشاهد بمعزل عن مساحة الدور – إلى التعامل الاحترافي للمركز مع الممثلين والجوّ العائلي الذي يطبع علاقته بهم ويكاد ينفرد به بين شركات الإنتاج. ولا بدّ هنا من المرور على بصمة سليم الحسين الواضحة في الكاستينغ الذي يمكن منحه العلامة الكاملة حتى الآن لاختياره الممثل المناسب للدور المناسب.
مساحة كبيرة يفردها المسلسل للإطلالة على معاناة الأسرى في معتقل الخيام


ويسجّل للمركز تمريره للسنة الثانية على التوالي نصاً يتضمّن أدواراً ذات مساحة كبيرة لشخصيَّات صغيرة في السن من دون التدخل للتعديل في عمر الشخصيَّة أو في مساحة الدور تجنباً للمخاطرة مع إمكان ذلك درامياً. ونتحدّث هنا على وجه الخصوص عن شخصيَّة «نبيل» المحوريَّة في «ظل المطر»، وشخصيَّة «علي» في «لحن البحر»، حيث أُسنِدَ الدوران إلى الوجه الجديد صالح زلزلي (8 سنوات) الذي قدّم أداءً مقنعاً ومبشّراً بموهبة واعدة.
وعلى قائمة أبطال «لحن البحر» يأتي أيضاً كل من نعمة بدوي، كميل متّى، آن ماري سلامة، سالي حرب، ربيع الحاج، رجا مروّة، خليل الحاج، هادي قدوح، محمود ماجد، سعيد بركات، آغوب دوجرجيان، عبدو حكيم، جمال حمدان، باسم حمدان، منى كريم، أسامة شعبان، جمانة الزنجي، فدوات علويّة، هادي طراد، روان فرحات، علي كلش، محمد خميس وحسن جفال.
مع وصول «لحن البحر» إلى حلقته الـ 11، بدأت الخطوط وملامح الشخصيَّات تتّضح تباعاً، واعدةً بارتفاع مستوى التشويق في الحلقات المقبلة، فماذا ينتظر عائلتَي «أبو حسن» و«أبو علي» من أحداث؟ وأيّ مصيرٍ سيلاقيه العميل فوّاز وعناصره؟ وما علاقة نعيم بأمّ سعاد وبمقتل أبي منير؟ الحلقات المقبلة كفيلة بالإجابة عن كل الأسئلة.

* «لحن البحر»: 20:30 على «المنار»