بعد ستة عشر عاماً، عاد تود فيلد (1964) محاولاً رفع إصبعه الوسطى في وجه ما يُسمّى ثقافة الإلغاء، لكنه لم يرفعها عالياً جداً لتكون واضحةً للجميع. يخفي «تار» (2022 ــ «تار» (مرشّح لستّ جوائز أوسكار منها: أفضل فيلم، أفضل ممثلة وأفضل مخرج...) وراء صرامته الرسمية، شكاً بثقافة الإلغاء، لكنه ترك نهايات فضفاضة. فهل يمكن فصل المنتج الإبداعي عن الفنان؟ هل من الصواب إبعاد عبقري وإهدار مواهبه لمجرد أنه شخص سيّئ في حياته الخاصة؟ أسئلة يطرحها المخرج الأميركي في فيلمه الجديد، الذي يشبه أحجية رُممت ببطء مليء بالتناقضات، فيما ترك الإجابة عنها لكل مشاهد.

يقدم «تار»، متغيّراً مثيراً للاهتمام حول ثقافة الإلغاء، التي كان جلّ ضحاياها تقريباً من الرجال، لكنّه لا يطوره. الشخصية هنا التي تتعرض للإلغاء هي امرأة، فهل الجنس مهم في هذه الثقافة؟ الحقيقة أنّ هذه المرأة التي يُعتقد أنها تتحكّم بمصير الآخرين بقفاز حديدي وتسيء استخدام السلطة، تبدأ بالانهيار بسرعة، فالفيلم يعاقبها ويوبّخها، ولكن بطريقة ما يجعلها أيضاً ضحيةً. ليديا تار (كيت بلانشت) قائدة أوركسترا شهيرة، طالبة ليونارد برنستاين، حاصلة على دكتوراه من جامعة هارفارد. حياتها المهنية مثيرة للإعجاب. هي حالياً مسؤولة عن أوركسترا برلين الفيلهارمونية، وعلى وشك تسجيل سمفونية غوستاف مالر الخامسة. كتابها «تار عن تار» سوف يُطرح في المكتبات قريباً. وفوق كل هذا، هي تنتمي أيضاً إلى نادي EGOT (أولئك الذين فازوا بجائزة أيمي وغرامي والأوسكار وتوني، عددهم في العالم 18 فقط). برغبة حازمة في محو الخط الفاصل بين الخيال والواقع، يبدأ «تار» بمقابلة مع المايسترو (كما تحبّ أن تُدعى). تتميز ليديا تار ببلاغة شريرة وقاسية وأنيقة، لا يمكن ألا تعجب بها. ما سنراه في غضون ساعتين ونصف ساعة، هو السقوط المضطرب لهذه المرأة القوية، التي تمشي في فقّاعة من التطور والمكانة التي ستنهار شيئاً فشيئاً لأسباب عديدة، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى الطريقة التي تتولّى بها ليديا السلطة، فهي لا تستخدم السلطة فقط لإغواء الآخرين بل لأذيتهم. يُظهر الفيلم مواقف من شأنها أن تقسمنا بين أن نكره ليديا أو أن نعجب بها. فهي تدمر طالباً بسبب رفضه عزف مقطوعة لباخ فقط بسبب كونه «كارهاً للنساء»، وتعطي طالبة فرصة كبيرة لأنها منجذبة إليها جنسياً، كما أنها تعاقب مساعدتها لأسباب عدة. يحتوي الفيلم على سمات أفلام السيرة، لكنه خيالي بالكامل. يسود هذا الإحساس بالواقع من خلال إلقاء النظرة على النخبة الموسيقية المثقّفة. إلى جانب الفن، هناك شبكة معقّدة كاملة من القرارات، والتسلسل الهرمي، الالتزامات الثانوية، النشاط الخيري، السفر المستمر والشعور الغريب بالعودة إلى المنزل والالتقاء بالعائلة لبضعة أشهر في سنة. هذه الحياة تصفها تار لابنتها بجملة «الأوركسترا ليست ديمقراطية». تتشابك التفاصيل الموسيقية أو الثقافة الموسيقية داخل القاعات الكبيرة مع البنية السردية، ويعتمد الفيلم على ذلك، لإعطاء المشاهد فكرة أكثر تشابكاً مما يُشاهد في الحفلات الموسيقية أو على الأسطوانات. علاوة على ذلك، يستخدم فيلد أسلوباً سردياً معتمداً على الإغفالات، ما يجعل بناءه ممتعاً للغاية، ولكن في الوقت نفسه، ليس من المؤكد أنه يستخدمه بطريقة مقنعة طوال الوقت. اللقطات والروابط والقفزات بين الأحداث تبدو غامضة بعض الشيء، ولا تؤدي بالضرورة إلى النتائج المرجوّة. على سبيل المثال، هناك مشهد متكرر حيث تستيقظ ليديا في الليل وتسمع أصواتاً مختلفة، لكن هذا الطريق المؤشر إلى مرض ما، لا يؤدي في النهاية إلى شيء. القصة التي أدت إلى سطوتها، بعيدة كل البعد عن الوضوح، وأيضاً انفجارها على المسرح، خالية من أي سياق. فوق هذا، سيناريو فيلد نفسه غير مقنع تماماً. بدلاً من التركيز على سبب واحد لسقوط ليديا، يتشتت إلى أسباب عدة، وفي لحظة ينهار كل شيء، ويأخذ الفيلم منحدراً دراماتيكياً خارجاً عن السياق نفسه.
مثل شخصيته، الشريط متناقض ومفتوح للنقاش. هناك من يراه هجوماً على ثقافة الإلغاء، وآخرون يعتبرونه قصةً نموذجية عن العقاب المستحق للمعتدي. والفيلم يعطي الأولوية للنقاش، من دون تقديم استنتاجات جاهزة. بالتالي، فإن شخصية ليديا ليست بيضاء أو سوداء، تماماً كما أن فضيحة التحرش وعواقبها ليست كذلك. وعلى الرغم من حقيقة أن فيلد لا يقول على الإطلاق ما هو الموقف الصحيح، علينا أن نتوصل إلى الاستنتاج بأنفسنا. ففي الفيلم كما في الحياة، محكمة الإنترنت تحكم على الفور. بعيداً عن قضية التحرش واستغلال السلطة وعواقبها، يكشف الفيلم كيف أن السلطات الثقافية السائدة تعاقب من يخرج عن المبادئ التوجيهية الإيديولوجية التي تشكل الإطار الأخلاقي لهذه المؤسسات. مثلاً، من غير المقبول أن لا تعرف ليديا، هذه المرأة المتعلمة المثقفة، ما يعنيه الثامن من آذار (مارس)، وكيف أن هذه المؤسسات، تضحّي بأي شيء كي تكون على الطريق الصحيح مع الصوابية السياسية.
يعطي الشريط الأولوية للنقاش، من دون تقديم استنتاجات جاهزة


بلقطات أنيقة وشبه هندسية، وشخصية تار الباردة والجو الخامل لهذا العالم المليء بالغطرسة، قدّم فيلد ـــ على الرغم من السيناريو المتضعضع ـــ قصة تقدّمية، تتحدى المشاهد وتطلب الكثير منه، ليس فقط بسبب طول الفيلم وكثافة بعض لقطاته، إنما أيضاً بسبب الجرأة. وضع فيلد في خضم عصر #MeToo امرأة مثلية وقدّمها على أنها يمكن أن تكون قاسية ومفترسة مثل الرجال، فالقوة لا تعرف الجنس. وفي الفيلم، القوة المفرطة تفسد بشكل مفرط كلّ من يلمسها. من خلال جعل امرأة مثلية في الفيلم بدلاً من الرجل، فإن فيلد استطاع ـــ على عكس أفلام MeToo السابقة ــــ سرد قصة من وجهة نظر الجاني بدلاً من الضحية. بعد كل هذا، نقول إنه من شبه المستحيل وضع هذا الفيلم في قالب واختزاله بطريقة سهلة، وهذا ما يجعله ثرياً ومناسباً للمناقشات والتفاصيل التفسيرية. «تار» الذي يتناول الاتجاهات الثقافية الجماهرية الحالية، ما كان ليكون بهذه القوّة من دون كيت بلانشيت، ودراسة الشخصية الرائعة هذه. بلانشيت تستحق جائزة أوسكار بجدارة!