ينجح الصهيوني في تقديم نفسه وقضيته وقصّته بشكلٍ جذّاب وعصري. في مسلسل «فوضى» (تأليف ليئور راز وآفي اسخاروف) بأجزائه الأربعة الذي تبثّه وتنتجه شبكة «نتفليكس»، نجد تضخيماً، وتعظيماً، وإعلاءً من شأن وحدة «المستعربين» (بالعبرية «مستعرفيم») الصهيونيّة المجرمة. حتى اللحظة، أثبتت هذه الأخيرة فشلها في أكثر من معركة مع الداخل الفلسطيني المحتل، فضلاً عن عجزها عن القيام بعمليات ذات تأثير حقيقي داخل غزّة كما يقترح المسلسل. في المقابل، لا نزال نفشل في تقديم قضيتنا والصراع العربي الإسرائيلي بطريقةٍ تشجع المتابع العربي ــــ قبل الغربي ـــ على متابعة ما نقوله، إذ تنقسم أعمالنا بين تقديم الصهيوني بطريقة كاريكاتورية ضمن منطق «شو خبيبي»، حيث يتحدّث الصهيوني بلهجة عربية مكسرة مضحكة وسخيفة في آن، أو تقديمه خبيثاً شبيهاً بشخصية شيلوك المرابي في «تاجر البندقية» لشكسبير، ناهيك باستعمال كل أنواع الكليشيهات المتعفّنة التي تصوّر العربي مقاتلاً خيالياً. يُضاف إلى كل هذا الفارق الرهيب في تقنيات التصوير والإخراج والكتابة (الحبكة) وحرفة الصنعة السينمائية في أعمال عربية مقارنة بمسلسل «فوضى» على سبيل المثال.في الجزء الرابع من المسلسل الذي يمتد على 12 حلقة، يعود بطل العمل دورون (ليئور راز) المجنّد في وحدة المستعربين، لكنّه هذه المرّة يوسّع دائرة عمل وحدته، فينتقل خارج كيان الاحتلال، وتحديداً إلى بلجيكا، ومن ثم والأهم إلى لبنان للعمل في مواجهة «حزب الله». ينجح دورون هذه المرّة في تخليص أحد المجندين الصهاينة من داخل «مخابئ» حزب الله في ضواحي بيروت كما لو أنَّ دخول معاقل أحد أقوى أعداء كيان الاحتلال هو بهذه السهولة! علماً أنّ الأجزاء السابقة قاربت الصراع بين جيش الاحتلال وبين حركتَي «حماس» والجهاد الإسلامي. يغوص المسلسل بشكل أعمق هذه المرّة في صراعٍ ضد أعداء الصهيوني كإيران و«حزب الله» بعدما قرّر دورون الابتعاد عن عالم الصراعات والأمن والقتل المعتاد في حياته بعد أحداث الجزء الأخير من المسلسل. سرعان ما تتعقّد الأمور مع اشتعال المواجهة وانتقالها إلى لبنان. يغوص المسلسل في الشارع اللبناني، ولكن على طريقة المسلسلات والأفلام الهوليوودية التي «تستسهل» الدخول إلى معاقل «العدو» والخروج منه بالسهولة ذاتها.
درامياً، يقدّم المسلسل وجبةً قاسية على المشاهد العربي المبدئي. في حال قرّر مشاهدة المسلسل، سيضعه الأخير أمام خيارين: «البطل» الصهيوني الذي يقدّمه العمل على أنّه «شهم»، و«عاطفي»، و«أخلاقي» يحمي «بلاده وشعبه»، وهناك «الأشرار» ذوو السلوك الشائن و«الإرهابيون» العرب والمسلمون الذين لا يتورعون عن أي شيء في سبيل «الوصول» إلى أهدافهم القذرة. نجد مثلاً في الأجزاء الأولى وليد (شادي مرعي) أحد ضباط المقاومة يقتل قائده وأحد أهم قادة المقاومة توفيق (هشام سليمان) من دون منطق أو سبب سوى أهدافه الصغيرة. وبعد قتله، يضمّه ويقبّله، معتبراً أن ذلك مخالفٌ لقلبه. نسرين (حنان هللو) زوجة توفيق، يظهرها المسلسل في حالة رفض لما يفعله زوجها، ولهذا النوع من الحياة معه حتى إنها تهدده بتركه والهروب مع أطفالها. هنا يظهر عدم فهم صنّاع العمل لحياة الفلسطينيين، خصوصاً أولئك في المقاومة، إذ إن عائلاتهم في المجمل تعرف حياتهم وتقبلها، لا بل تشجّع عليها مثل عائلات الحركة الفلسطينية الأسيرة كالسيدة أم جبر وشاح، أو عائلات الشهداء كأم نضال فرحات. ما يحدث مع نسرين يتكرّر مع علي الكرمي أستاذ توفيق الذي يعتبر بمثابة والده النضالي الذي يعطي معلومات أمنية مهمة للصهاينة في مقابل عملية جراحية مهمة لابنته؛ ما يدفع توفيق إلى قتله.
يغوص العمل في الشارع اللبناني، لكن على طريقة المسلسلات والأفلام الهوليوودية


ولأن المسلسل هو «مسلسل هجومي» يقدّم الرواية الإسرائيلية للصراع، من البديهي أن نشرح الفكرة أكثر كي تتضح لمشاهديه. بداية يأتي صانعا العمل أسخاروف وراز بصفتهما «المهنية» لا كصنّاع دراما وميديا، بل بصفتهما ضابطين «قاتلين» خدما في جيش الاحتلال ساهما في عمليات قتلٍ ضد الفلسطينيين ضمن وحدة «دوفيدوفان» الصهيونية والمستعربين حكماً. هذا التواجد الذي قد يعتقد بعضهم بأنه أفاد العمل وأعطاه لمسةً واقعية، قدّم الرواية الصهيونية، وهما أعلنا صراحة أكثر من مرةً بأنهما يتبنّيان رواية «المؤسسة العسكرية الصهيونية». النقطة الثانية، أنّ لا وجهة نظر فلسطينية في ما يحدث. ثالثاً تأتي وجهة النظر الصهيونية هذه، متجاهلةً أن هناك احتلالاً أصلاً في فلسطين، حيث لا جدار فصل، ولا هدم منازل، ولا احتلال وحشياً كما هو في الواقع. الأهم من هذا كله طريقة تصوير المناطق الفلسطينية بأنّ لا حياة فيها، وتحديداً غزّة التي تصوَّر على أنّها مقبرة. أما الفلسطينيون، فهم «مخلوقات مخيفة وغريبة تعيش في أماكن لا تجرؤ إلا القوات الخاصة على المغامرة بدخولها» بحسب مقالة للكاتبة البريطانية أورلي نوري في تقرير نشره موقع «ميدل إيست آي».
باختصار، هو مسلسل موجّه يقدّم الصراع من وجهة نظر صهيونية بحت. ورغم جميع محاولات صنّاعه أخبار الجميع بأنّهم «محايدون» و«ليسوا جزءاً من الصراع»، إلا أنّ مجرد تبنّيهم لوجهة نظر وحدة المستعربين وجنودها يعني أنهم جزء لا يتجزأ من الرواية الرسمية الصهيونية.