قبل سبع سنوات، تذكّر أحد معاقل الحداثة السينمائية في أوروبا الشرقية القديمة، المخرج يرجي سكوليموفسكي أحلام طفولته وقدمها في فيلمه «11 دقيقة». بعدها بسنوات، روى أنه عند قراءة عدد قديم من مجلة «دفاتر السينما»، فكر في فيلم Au Hasard Balthazar (1966) لروبير بروسون، وتساءل كيف يمكنه تحويل الحكاية الأخلاقية القديمة إلى قصة عن الحاضر.

في عام 2022، قدّم فيلمه الجديد EO (جائزة التحكيم في «مهرجان كان»، ومرشح لجائزة الأوسكار كأفضل فيلم دولي). كان بروسون قد روى قصة شغف حمار وعلاقته القوية بصاحبته، وشكّل رمزاً مسيحياً للمعاناة الإنسانية. اتخذ بروسون مسافةً مناسبةً من البؤس الذي شاهدناه، وكان محيراً بسبب وجود عنصري الخطيئة والشر. في المقابل، يروي سكوليموفسكي القصة كاملةً من منظور الحمار، جامعاً سلاسل فضفاضة، غالباً ما يبدو ترتيبها عشوائياً لا يتبع أي منطق سردي معين. بدلاً من التركيز على عالم مغلق، يمر حمار سكوليموفسكي بكل شيء. «إيو» خطر فني واجهه القطب الثمانيني في حياته السينمائية التي استمرت ستة عقود، ونجح في الخروج منه بقوة. وبدلاً من بناء السرد على التقشف البروسوني النموذجي، يختار سكوليموفسكي أسلوباً بصرياً تعبيرياً يتأرجح بين الحلم والهلوسة. المعلّم البولندي أطلق على حماره اسم «إيو» ولعب دور الحمار هولا، تاكو، ماريتا، إيروتي، روكو، ميلا (شكرها المخرج كلّها خلال تسلّم جائزته في «كان»). قصة الفيلم سهلة: EO حمار في سيرك يقدم عروضاً مذهلة. ولكن ذات يوم، ونتيجة لحركة نشطاء حقوق الحيوان، انفصل عن مالكته التي تحبه ودخل في مقصورة، وبدأ بالتالي مغامرته وحيداً عبر بولندا. حياته، مثل شخصية رئيسية لفيلم طريق، ليست مرتبطة بموقع أو شخص، لكن بالعديد من الأماكن والأشخاص، تتخلّلها تجارب سارة ومؤلمة. بينما تنقل بعض التجارب معاني مباشرة وواضحة، تميل أخرى إلى أن تكون مجردة تماماً.
تتغير حياة الحيوان مرات عدة خلال الفيلم. يمر عبر مزرعة خيول، ويتم الإتجار به في السوق السوداء، يصبح للحظات بطل ألتراس أحد نوادي كرة القدم، بل يغادر البلاد. وطوال الوقت، لم ينجح «إيو» أبداً في الهروب من الاستغلال، يبدو الأمر كما لو أن مصيره هو الوقوع في دائرة من اللامبالاة. وبدلاً من التركيز فقط على التعاطف مع بطلنا البريء، يعرّج سكوليموفسكي على دراسة الكائن البشري، وكل مغامرة يمر بها «إيو» هي لالتقاط وتشريح بعض جوانب المجتمع البولندي من القومية والنخبويّة، بلمسة كاريكاتورية بعض الشيء. يراقب سكوليموفسكي كل شيء بيأس، في فيلم جميل جداً فيه الكثير من الضوضاء والألوان وعنف التطرّف اليميني وإساءة معاملة الحيوانات، والغياب المطلق للبشرية جمعاء.
التطرّف اليميني وإساءة معاملة الحيوانات والهجرة غير الشرعية والاختلافات الطبقية


سكوليموفسكي، رأس حربة «السينما البولندية الجديدة» التي شكلت الربيع السينمائي في أوروبا الشرقية التي كانت لا تزال تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، يعود بالتجريد والتخريب والتجريب. ينقلنا من واقعية شعرية إلى حدود ضبابية مرعبة. نعتقد حيناً أننا في مجال الواقعية الاجتماعية، وأحياناً في مجال السخرية السياسية. تخبرنا بعض المشاهد عن ذكريات الحمار، وأخرى عن همجية اليمين المتطرف وإساءة معاملة الحيوانات، والهجرة غير الشرعية والاختلافات الطبقية. الفيلم عبارة عن تشريح لا يمكن التنبؤ به. العالم مكان غامض، ولا سيما من خلال عيون حيوان. بطريقة تجريبية، يثقل سكوليموفسكي فيلمه بينما نشعر بالسوريالية التي تشير إلى وجود كوابيس أو ذكريات أو رغبات غير واعية ليس بطريقة بصرية وصوتية فقط، بل أيضاً من خلال خلق رموز المعضلة. «إيو» رمزي بطبيعته، والتعاطف مع الحمار في الفيلم يكاد يكون بديهياً. لكن الفيلم يذهب أبعد من «حبّ الحيوانات وتقديرها». «إيو» عمل مليء بالضوضاء والطاقة والغضب الانتقائي، نشأ في حالة من القلق، مستعد لتصفية الحسابات مع الوضع الحالي للعالم ضد تيار كل شيء وكل شخص. لهذا السبب وحده، من الجدير أن ننظر إلى الفيلم بعيداً تماماً عن القاعدة والتوقعات، من دون تحيّز، بالرغم من أنه غير متساوٍ وغريب بقدر ما هو محفز وأصلي.