هذا مقال أخلاقي، لا سياسي. «إيقاعات السلام»… إنه العنوان الذي اختارته لجنة «مهرجان البستان» لدورة 2023 التي تنطلق الليلة، وتتصادف مع ذكرى مرور سنة على بدء العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا. المقصود بشكل واضح هو المساهمة في بث الأمل باحتمال وقف الحرب والدفع بهذا الاتجاه ولو بشكل رمزي. ولمّا كان لكل دورة عنوان، استوحى المنظّمون الاسم وعملوا على ترجمته في جزء من الأمسيات بشكل مباشر أو غير مباشر: أولاً، من خلال دعوة موسيقيين من روسيا وأوكرانيا على السواء، ثانياً، من خلال وجود أعمال لكبار المؤلفين الروس (تشايكوفسكي، رخمانينوف، بورودين وسكرابين) وأخيراً من خلال بعض الأعمال المحددة التي لها علاقة واضحة بالموضوع، مثل «قدّاس في زمن الحرب» العمل الإنشادي الديني للنمسَوي هايدن و«افتتاحية 1812» تحفة تشايكوفسكي الشهيرة التي كتبها إحياءً لذكرى انتصار روسيا على فرنسا في ما يسمّى «الحرب الوطنية» التي نتجت عن مهاجمة فرنسا بقيادة نابوليون لروسيا، وأعمال أخرى. لكنّ العنوان عام، أي أنه لا يقول صراحة عن أي سلام هو في صدد الدفع باتجاهه. أولاً، في المطلق، ألف تحية للمهرجان الذي قارب الحرب في شرق أوكرانيا بهذه العقلية، فهذا، ولو بدا ساذجاً، إن ضرّ بشيء، فبشركات الأسلحة ولوبياتها السياسية التي لا تريد هزيمة روسيا ولا سقوط أوكرانيا. ثانياً، تحية للمهرجان تحديداً لأنه لم ينزلق إلى حفلة السلوك البغيض الذي مارسه الغرب في إهانة الموسيقيين الروس بوطنيّتهم، الموالين لبوتين كما البعيدين عن السياسة وحتى الذين أدانوا الحرب في المطلق. الأمثلة كثيرة على الوقاحة التي عاملت بها الجهات المنظمة للحفلات ووكالات الفنانين وكذلك الإعلام، عازف بيانو أو قائد أوركسترا أو مغنية أوبرا لمجرّد أنه روسي. حتى دوستويفسكي نفسه لم يسلم من التحريم النازي الملامح. لكنّ المثل الأبشع في هذه الممارسات التي لم يسبق لها مثيل إلا مع هتلر، طاول الفتى الروسي ألكسندر مالوفييف الذي دُعِيَ لإقامة ثلاث أمسيات في كندا، هو الذي غرّد على تويتر قبل ذلك بشكل واضح ضدّ الحرب. طلبت السفارة الأوكرانية في كندا إلغاء زيارته، فأتى الرد بأن الشاب ليس له أي علاقة بالسياسة لا بل صرّح ضد الحرب، فأتى الرد على الردّ، من السفارة: يجب إلغاء الزيارة لأن مالوفييف (بعزفه على البيانو) يقوم ببث الثقافة الروسية! لقد أهين الموسيقيون الروس وكذلك الرياضيون، وهذا غير مقبول ولا علاقة له بالموقف من الحرب والأطراف المتنازعة. أضف إلى العهر، الخبث: عام 2003 لم نسمع عن حالة واحدة لإلغاء حفلات لموسيقيين أميركيين بعدما اجتاحت الولايات المتحدة «جارها» العراق الذي كان يهدد أمنها بأسلحة دمار شامل. عام 2006، لم يطالب أحد الموسيقيين الإسرائيليين بموقف واضح ضد أولمرت بينما كان جيشه يدمّر لبنان. ليس المطلوب موقفاً سياسياً مع هذا الطرف أو ذاك في ما يجري وجرى في السابق من نزاعات بين الدول. المطلوب توحيد المعايير، مثل عدم تجريم نادي «سلتيك» لكرة القدم بسبب رفع جمهوره علم فلسطين! بالتالي، جميل أن يدعو «البستان» مالوفييف إلى لبنان، أولاً لأنه فتى موهوب وثانياً لكسر هذا الجوّ المريض والعنصري، وثالثاً، لأن إحدى وسائل الإعلام الفرنكوفونية اللبنانية على الإنترنت، نشرت مقالاً عن عازف البيانو الروسي بوريس بيريزوفسكي الذي كان قد دُعِيَ (قبل الحرب) إلى «البستان»، فأتى وقدّم أمسيتَين من دون أي تصريح (وكانت الحرب قد بدأت) ثم عاد إلى روسيا وصرّح على إحدى وسائل الإعلام الروسية كلاماً داعماً للحرب على أوكرانيا. وفي ختام المقال طالبت كاتبته لجنة «مهرجان البستان» بإدانة تصريحات بيريزوفسكي! هذا هذيان واضح، وقد عاد الموقع وحذف هذا «المطلب» من النص.
لم ينزلق إلى السلوك البغيض الذي مارسه الغرب في إهانة الموسيقيين الروس

هذه المسألة الأولى. الثانية هي غير واضحة، لكن نتناولها لإنهاء الكلام في الجانب الذي قد يحتمل تأويلاً. يحيلنا عنوان الدورة الحالية لـ«البستان» إلى الحرب الروسية على أوكرانيا، صحيح، لكن لا يمكن استبعاد ما حصل هذه السنة من تطبيع عربي مع إسرائيل عن دلالات العنوان، الذي قد يرى فيه بعضهم تلميحاً إلى سلام بين لبنان والدولة العبرية. صحيح أن إقامة أمسية في مقرّ اليونيفل لا تعني مزيداً من التلميح، بل تحية لـ«رجال السلام» في المطلق (رغم انحيازهم الواضح إلى مصلحة إسرائيل) كونهم موجودين هنا لحفظ السلام. مع ذلك، فلنُنهِ النقاش بدون مواربة: إن كان ثمة دفع في هذا الاتجاه، مقصود أو ناتج عن تأويل لعنوان المهرجان، نحن ضدّه. نحن مع أن ينعم الإسرائيليون برغد العيش والسلام والطمأنينة والبحبوحة والحب، في أراضي وبساتين وحدائق وبيوت أسلافهم الجميلة في… بولندا وروسيا وإثيوبيا وأوكرانيا وأميركا وإسبانيا وغيرها. أما هنا، جنوباً، فنحن مع حلّ الدولة الواحدة... حل دولة واحدة... حَلّ إسرائيل… نهائياً.