يواصل أسعد الجبوري مشروعه المتفرّد في استضافة شعراء موتى ومحاورتهم من موقع الضّد، كاشفاً أسراراً مجهولة أو مغيّبة في حيواتهم، ومفكّكاً الألغاز التي وسمت تجاربهم بفخاخ الأسئلة الهجومية، وتالياً تمزيق الأكفان، وتعرية مغامرات هؤلاء الشعراء من أجراس البلاغة. على المقلب الآخر، يسعى صاحب «أولمبياد اللغة المؤجّلة» إلى إعادة الاعتبار إلى ديوان الشعر العالمي بترميم الهويات الناقصة لشعراء عبروا الكوكب مثل نيزك، بصرف النظر عن الجغرافيا التي ينتسبون إليها. وإذا بالمقبرة الكونية للشعراء تتحوّل إلى غابة دهشة بثمار يانعة، ومدخنة عالية للبوح والهذيان. بدأ الشاعر العراقي المقيم في الدنمارك مشروعه قبل سنوات، مقتحماً حياة محمد الماغوط أولاً: «كان منطلقاً بدراجته النارية على الصراط المستطيل من دون ارتباك، ومن خلفه يهرولُ آلاف الناس حفاةً، كأنهم في تظاهرة صاخبة تطالب برأس شيطان عظيم. لم تكن ثمّة لافتات للاحتجاج، لا من قماش ولا من ورق. الحناجر البشرية وحدها كانت ملتهبة تصرخ، وهي أشبه بمداخن تلفظ ناراً ودخاناً». ثم سيستدعي لاحقاً عشرات الشعراء الآخرين إلى «بريد السماء الافتراضي». لا جنّة أو نار هنا، كما فعل المعرّي في «رسالة الغفران»، أو دانتي في «الكوميديا الإلهية»، إنما محاكمات دنيوية تنطوي على مواجهات شرسة، تعمل على «رفع النقاب عن الفضائح والكشف عن الأسرار التي لطالما حاول هذا الشاعر أو ذاك التستر عليها يوم كان من سكان الأرض».


بأدوات الطوبوغرافي ومخيّلة الشاعر، يغرق أسعد الجبوري في أرشيف الموتى، متأملاً نيغاتيف الصورة، وهوامش السطور، والصندوق الأسود للشخصية في مراحلها المتعاقبة. فإذا به يحوّل الرماد إلى جمر في المواقد المطفأة، كما يزيح طبقات الصمت جانباً، عن السيرة الذاتية بما بقي سرّاً، فتتضاءل المسافة بين الشاعر ونصّه، تتوهج بما كان منسياً أو مهملاً أو مغيّباً، بقصد أو من دون قصد، لـ «تحريك عضلات الشعر، وجعله تمريناً نابضاً بحياة ما بعد الموت، وخلق طقوس معاصرة لشعراء الزمن الغابر، مع خلق علاقات ما بين شعراء العرب والغرب من خلال وجودهم المشترك في السماوات أو تحت الأرض في المدافن الكبرى» يقول. هكذا تتكشّف خريطة طريق أخرى، بتعبيد تضاريسها نحو الأبدية، لتشعّ بمعجم افتراضي جديد ومفارق يستمد من الراهن انفجاراته المعرفية. لا مسافة هنا بين الحلّاج والنفري وجلال الدين الرومي من جهة، ومحمود درويش وبسّام حجّار وفروغ فرخزاد من جهةٍ أخرى، لكنهم جميعاً، سيلتقون في خندقٍ واحد، يرفعون راية الشعر ببسالة، بعد ختمها بطابع بريد جديد.
بعد «شعراء نائمون في غرف الغيب»، و«شعراء برائحة الكآبة والجنس»، و«شعراء خارج موسوعة العدم»، و«شعراء ما بعد الورق»، و«شعراء بنسخ منقّحة»، يستكمل صاحب «صخب طيور مشاكسة» حواراته الافتراضية مع كوكبة أخرى من الشعراء، تحت عنوان «شعراء السمو والضلالة والخلود» (دار الينابيع- دمشق). هذه المرّة يستدعي كوكبة ضالة من شعراء الأمس، ليس من باب تحضير الأرواح، أو إقامة خيمة عزاء، إنما يدعو إلى هبوب ريح أخرى تحطّم شواهد القبور، كي يستنشق أصحابها هواءً آخر. سنلتقي ابن الفارض، وفرناندو بيسوا، وجورج شحادة، وممدوح عدوان، ووالاس ستيفنز، وأمجد ناصر وآخرين. هكذا يستدرج ابن الفارض إلى منصّة الاعتراف، في حوار عرفاني عن طبقات العزلة، فيجيبه «قيمةُ العُزْلةِ في ما تنتجُ. وفيما تصيرُ نصوصاً عابرةً للأنفس والجغرافيات وللمدارس التي يتدرّب فيها الناسُ على النّسْيان».
ويقتحم عزلة فرناندو بيسوا بسؤال عن معنى الموت، فيجيبه: «لم أشعر بأن الموت استعمرني إلى ذلك الحدّ الذي استعمرتني فيه الآلام. بعبارة أدقّ: لقد مشت سعادتي الشخصية على لغم، وانتهى أمرها إلى الزوال بعد أن افترسها من قبل الديناميت»، فيما يقاطعه جوزيف برودسكي برأي آخر «الموتُ مجموعة أقنعة تتعايش معنا على الدوام. ولكنه يفضل السهرَ بعيداً عن المدافن، لذلك تراهُ ينتزعُ الجميل والجميلات من تحت التراب، ويذهب بالموتى إلى حاناته المحصّنة بالأشباح والمصابيح السحرية». وعن علاقة الشاعر بالجحيم وتغييب الفراديس، يجيب جورج شحادة قائلاً: «لأن لا نضوج لشعر إلا تحت تأثير الحرارة العالية، فقد يُعرقلُ برد الفراديس البناء الروحي للغة الشعرية في النصوص». وسيجيب ممدوح عدوان عن سؤال التمرّد الذي رافق تجربته قائلاً: «كنت أحب الاقتراب من حافة الجحيم. فما كان يهمني هو الاكتشاف، هي المعرفة، هو فعل تحطيم الشرنقة، لا التأقلم والتقوقع والاستسلام للقدر الذي فرضته علينا أمّنا الطبيعة وأمراضُها المتعددة المختلفة الصامتة منها والصارخة».
يستدعي كوكبة ضالّة من شعراء الأمس كابن الفارض، وبيسوا، وجورج شحادة، وممدوح عدوان، واضعاً إجاباتهم على حافة الجنون والنشوة القصوى


بمثل هذه المباغتات وقدرة الأسئلة على التحليق عالياً، يستدعي أسعد الجبوري ضيوفه إلى موقد النار، واضعاً إجاباتهم على حافة الجنون والنشوة القصوى، مكتفياً بإجابات مركّزة هي جوهر التجربة لا هوامشها. يشير خزعل الماجدي في تقديمه لهذه الحوارات بقوله: «لعلّ أخطر ما في هذه الحوارات أنها سلّطت الضوء على ذلك الصوت الداخلي النافر والمدبّب لكلّ المبدعين، صوتهم الرافض لعصرهم ولمجتمعهم وللسلطة وعماء الوهم الذي اندرجوا فيه، وللإهمال والقسوة حولهم. وجاء هذا بسبب طريقة المعالجة الأساسية التي كان يشتغل بها المحاور، فهو يؤكد هذه الثيمة ويُشبعها نقاشاً. فهذه الحوارات تبحث في الجانب الخَفي والمعتم والصاخب والجنونيّ في حياة المبدعين، وهي إذ تؤكد هذا الجانب فهي تنطلق من فرضية بسيطة عبّر عنها الحوار مع تشارلز بوكوفسكي حين قال بأن القارئ يريد البحثَ في تنكة زبالة الوجود، عسى أن يجدَ له تتمةً ضائعةً، أو مختفيةً هناك».
لم يغلق أسعد الجبوري بريده السماوي عند هذا الحدّ. إنه منهمك باكتشافات أخرى داخل مشرحة الكلمات، وغرف العناية الفائقة للشعراء، بنوبات حراسة طويلة، وها نحن ننتظر أجزاءً إضافية من هذه الموسوعة المبتكرة، ووعوداً بحرائق فانتازية أكثر لهيباً.