يصعب على المرء تقرير من أين يبدأ عندما يريد التكلّم عن الفيلم الوحيد الذي نال آل باتشينو جائزة «أوسكار» لدوره فيه. يمكن وضع «عطر امرأة» (1992) في خانة، وكلّ شيء آخر متعلّق بالسينما في خانة أخرى. قليل جدّاً أن نرى سيناريو منتقى بهذه الدقّة وإنتاج لا يلاحق التفاصيل فحسب، بل تفاصيل التفاصيل أيضاً. ويعود الفضل الأكبر في تشكيل هذا الانطباع لآل باتشينو نفسه. وللمفارقة يعوّض فقدان شخصيّته في الفيلم لحاسّة البصر، عبر جذب كلّ الأنظار إليه (حرفيّاً، كما سنرى في الفيلم). مستحيل أن يكون آل باتشينو في أيّ من المَشاهد وألّا يحدّق المُشاهد إليه، إذ يفرغ كلّ ما في جعبته من احتراف للتمثيل وكاريزما وغموض وتشويق. ببساطة، الفيلم فيلم آل باتشينو بامتياز، يجمع فيه كلّ مواهبه التي كان أظهرها في سلسلة «العرّاب»، مع تحسينها ومن ثمّ الإضافة عليها.الشريط الذي يمتدّ على 157 دقيقة هو نسخة محدّثة من فيلم Profumo di donna (1974) للمخرج الإيطالي دينو ريسي، الذي بدوره اقتبس عمله من رواية «عتمة وعسل» لجيوفاني أربينو. لكنّ نسخة 1992 مختلفة تماماً؛ تُدخل المُشاهد في أدقّ تفاصيل حياة شخص فقد بصره، حتى تجعله يشعر بكلّ ما يشعر به ذاك الشخص. إذ تدور قصّة الفيلم حول الكولونيل الأميركي المتقاعد فرانك سليد (آل باتشينو) الذي فقد بصره في حرب فيتنام، وهو يُقيم مع أقاربه لكنّه منعزل عنهم بعض الشيء. يحتاج الكولونيل إلى أحد يساعده في تسيير حياته، فتوظّف له ابنة أخته الطالبَ الجامعي تشارلز سيمز (كريس أودونيل) الذي يدرس بمنحة جامعية ويريد المال للسفر إلى أوريغون كي يمضي الوقت مع عائلته خلال فترة الأعياد. لكن سرعان ما يكتشف تشارلز أنّ الكولونيل سليد مدمن على الكحول وسريع الغضب ويائس ولا يمكن التنبّؤ بما يفكّر به، إذ يقرّر فجأة الذهاب إلى نيويورك واصطحاب تشارلز معه. لكنّ تشارلز يتعلّم قراءة الكولونيل شيئاً فشيئاً، ويكتشف ما ينوي فعلاً القيام به، فيساعده، ما يستدعي الكولونيل بالمقابل لمساعدة تشارلز في عدم الخضوع لمحاولة ابتزاز من قبل مدير جامعته.
طوال الفيلم، يغلب عامل التشويق المتمحور حول محاولة توقّع ماذا سيفعل الكولونيل سليد تالياً. معاملته لتشارلز الخائف، عليه وعلى نفسه، كمعاملة الأب المرشد لابنه المتدرّب. يعلّم سليد تشارلز عن آداب الأماكن العامّة وأخلاقياتها، وأيّ مطاعم يرتاد، وكيف يتصرّف مع محاولة ابتزازه في الجامعة. لكنّ الأهمّ، يعرض الكولونيل قدرته علـى تحليل الشخصيّات عبر اشتمام «عطر المرأة» وتحديد نوع العطر، ويبرز مهاراته في التانغو كما عشقه لسيارات «فيراري». التشويق لا يكمن في الأمور المذكورة بحدّ ذاتها، فهي عند تعدادها تبدو روتينيات طبيعية لدى أميركيّ عاديّ. لكن مع إضافة عامل «الرجل الأعمى» الذي يؤدّيه آل باتشينو، يتغيّر كلّ شيء. رجل أعمى يصعد إلى الطائرة، رجل أعمى يرقص التانغو، رجل أعمى يقود «فيراري»، رجل أعمى يدخل في حالة من اليأس، رجل أعمى يواجه مدير الجامعة في قاعة ممتلئة... ولنا أن نتخيّل صعوبة تأدية دور مماثل، ولا سيّما باحترافية آل باتشينو. قد يكون أدّى عدد من الممثلين قبله أدوار شخصيات فاقدة لحاسّة البصر، لكن لا أحد اقترب من قدرة آل باتشينو على الإقناع والتشابه مع الحقيقة. ربما المثال الوحيد الذي يستحقّ الذكر هو دور أودري هيبورن في «انتظر حتى الظلام» (1967)، الذي اعتُبر في حينه أداءً خياليّاً لهيبورن. آل باتشينو اجتاز هذه الخيالية بأداء فلكي. نكاد نقتنع أنّ الممثل فعلاً أعمى.
يوجّه الشريط نقداً لاذعاً لمؤسسات التعليم «العريقة»

يستخدم كلّ أساليب التعبير، من طريقة تحريك عيونه وتعابير وجهه، إلى نبرة صوته ولغة الجسد وإبراز شخصيّة الكولونيل الغامضة والقويّة.
كلّ ما سبق، لا يكتمل طبعاً من دون إخراج مارتن بريست، الذي تولّى أيضاً إنتاج الشريط. عدا عن كادراته المتقنة وتفنّنه في مقاربة حالة الكولونيل سليد، يدع المُشاهدَ ينغمس في نوبات تسلية، كمثل مشهد التانغو الذي لا يمكن إلّا أن يضع بسمة على الوجه، وكذلك مشهد قيادة الكولونيل سيارة «فيراري» تجريبيّاً. رغم كلّ الخوف الذي يعتري تشارلز الجالس بجانبه، يبقى مشهداً سينمائيّاً أسطوريّاً. ثنائية آل باتشينو وبريست هي ما أعطت للعمل رونقه وزخمه.
لا يكتفي «عطر امرأة» بالشقّ الدرامي والتشويقي فحسب، بل يتعمّق أيضاً في علم النفس وفي القيم الاجتماعية، والأهمّ أنّه يوجّه نقداً لاذعاً لمؤسسات التعليم «العريقة» التي تؤطّر الطلاب ضمن قالب واحد، وتخرجهم منها كالروبوتات، فيما القائمون عليها لا يلتزمون حتى بالقيم التي يدّعون الحرص عليها، وكلّ ما يهمّهم هو التجارة والتسويق على حساب التعليم. ينتقد الكولونيل سليد شعار الجامعة حول أنّها «مهد القيادة». على مدى دقائق عدّة قرب نهاية الشريط، يستمرّ آل باتشينو في مونولوغ استثنائيّ، فيما تستمع إليه بذهول قاعة مليئة بالطلّاب كما أعضاء اللجنة التأديبية وهو يرفع نبرته: «كان هناك وقت كنت أستطيع فيه الرؤية. وقد رأيت شباباً مثل هؤلاء، أصغر من هؤلاء، أذرعهم ممزقة، وأرجلهم مبتورة. لكن ليس هناك مثل مشهد الروح المبتورة. لا يوجد بديل اصطناعي لذلك».

* Scent of a Woman على نتفليكس