طالما واجه السينمائيّون مهمّة صعبة في نقل الحكايات من أجواء ألعاب الفيديو إلى السينما/ التلفزيون أو بالعكس، وأخفقت معظم التجارب إلى الآن في إرضاء جمهور الألعاب أو جمهور السينما، أو كليهما معاً رغم الإنفاق البالغ على بعضها ومشاركة نجوم كبار. ومن الممكن أن السبب يكمن أساساً في صعوبة ترجمة سرد ناجح ضمن شروط أحدهما الأدبيّة/ الفنيّة إلى الشكل الأدبيّ الآخر. لكن HBO تبدو كأنّها نجحت في تحقيق المعادلة المستحيلة، في النسخة التلفزيونيّة من لعبة بلاي ستيشن الشهيرة «آخر من تبقى منّا» The Last of Us. بدأت حلقات الموسم الأوّل بالظهور تباعاً في حلقات أسبوعيّة بداية من 15 كانون الثاني (يناير) الحالي (الموسم في تسع حلقات). تعليقات جمهور اللعبة على أول حلقتين، بدت في غالبها إيجابيّة للغاية، حتى وصفته الصحف الأميركيّة بـ «أفضل عمل تلفزيونيّ مقتبس من لعبة فيديو على الإطلاق». جمهور التلفزيون – بمن فيه ذلك القطاع العريض ممن لم يختبر اللّعبة – وجد في الحلقتين أيضاً وعوداً برحلة مثيرة في أجواء ديستوبيا أميركيّة جديدة. وتلك ربّما المهمّة الأصعب أمام كاتبي المسلسل كريغ مازن (كتب دراما «تشيرنوبيل» ــ 2019) ونيل دروكمان (أحد القائمين على لعبة الفيديو) اللذين يفترض بهما خوض غمار منافسة حادة مع سوق ضخمة للتجارة بثيمة انحطاط الولايات المتحدّة، وتحوّل الإمبراطوريّة المعولمة إلى ديستوبيا تامّة. وجدت هذه الثيمة تعطشاً وتقبلاً عند الجمهور الأميركيّ في أعقاب حادثة الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وتمددت عبر نتاجات فكر الاقتصاد السياسيّ، والرواية، والشعر، والفنون التشكيليّة، والسينما، والتلفزيون، وبالطبع ألعاب الفيديو. لعل جولة سريعة للتأمل في عناوين الكتب المعنيّة باستطلاع مستقبل التجربة الأميركيّة التي صدرت خلال العقدين الأخيرين، سواء أكانت في فضاء الخيال الأدبي (انظر مثلاً «تروبيك أوف كانساس»/ 2017 لكريستوفر براون، و«حرب أميركيّة»/ 2018» لعمر العقّاد)، أو الدراسات السياسيّة («انحطاط وسقوط الجمهوريّة الأميركيّة»/ 2010 لبروس أكيرمان، و«انحطاط وسقوط الإمبراطوريّة الأميركيّة»/ 2018 لتيرلر كوين) أو حتى التوثيق التاريخيّ («عبور الروبيكون: انحطاط الإمبراطوريّة الأميركيّة ونهاية عصر النفط»/ 2004 لمايكل روبيرت، «تدمير مسيطر عليه للإمبراطوريّة الأميركيّة»/ 2020 لجيف بيرويك)، فسيجد بدون شك ثيمة واحدة غالبة تجمع بينها كخيط ذهبيّ: هذه أمّة تتجه إلى الانحطاط. وبالطبع، فإن هذا المزاج المتشائم انتقل بالضرورة إلى مساحة السينما والتلفزيون، وترجم أعمالاً أفلاماً ومسلسلات تتحوّل الولايات المتحدة فيها بدفع كارثة ما - وباء غالباً - إلى أكبر دولة فاشلة في العالم، تنقسم حواضرها إلى كانتونات يحكمها مجرمون فاشيّون. وتغطي سماءها درونات قاتلة، وتسيطر على شوارعها المليشيات والعصابات وقطعان المرضى، وتتحول ملاعبها الرياضيّة إلى سجون ضخمة، وتندلع فيها حروب أهليّة، فيما تضطر كندا والمكسيك لأن ترسل جيوشها لحفظ أمن حدودهما المديدة مع ما كان يوماً الولايات المتحدة. لعل أهمها كان المسلسل البديع «الموتى السائرون» The Walking Dead الذي قدّم موسمه الأوّل عام 2010، وأنهى مسيرته التي استمرت 11 موسماً في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي.
مسلسل The Last of Us يكمل هذا المسار الكئيب عبر نقل لعبة بلاي ستيشن بالاسم نفسه (2013 وتحديثاتها اللاحقة) إلى شاشة التلفزيون. تدور أحداث القصّة في وقت ديستوبيا أميركيّة تسبب في إطلاقها انتشار وبائيّ لفطر قاتل يسمى كورديسيبس حوّل أغلب السكان إلى زومبيّات عدوانيّة تائهة، متتبعاً قصّة مهرّب عنيد يدعى جويل (لعب دوره في المسلسل بيدرو باسكال) يتم تكليفه بعد 20 عاماً من بدء الكارثة بمرافقة إيل (بيلا رامزي) وهي فتاة مراهقة تتمتع بمناعة نادرة ضد العدوى في مهمة عبر البلاد المنكوبة. إنها رحلة يائسين يبحثون عن الأمل في لجج متلاحقة من الظلام والعنف، والكآبة، والرهبة، وانعدام الثّقة، والحزن.
تبدأ الحكاية مع جويل، الذي ينتمي إلى الطبقة العاملة، مع بدايات تفشي الوباء بينما يحاول يائساً إنقاذ ابنته سارة (نيكو باركر) من فوضى ولاية تكساس المتداعية. المصابون بالمرض الفطري الذي يصيب الدّماغ كانوا في ذلك الحين يتحولون إلى زومبيّات مسعورة وعدوانية. لكنّ الفطر تطوّر بعد تمكّن الوباء من معظم سكان الولايات المتحدة لعقدين، ليتحوّل إلى كائن طفيليّ شرس يحتل كلّ جسد المريض محولاً ضحاياه إلى وحوش مرعبة. في هذا الوقت، يعود جويل، وقد غزا مفرقه الشيب وفطر قلبه الفقدان، ودفنت إنسانيته وقدرته على الابتهاج تحت أكوام من السخرية والعنف، وغيّرته الأشياء الحقيرة التي كان يتعيّن عليه القيام بها للبقاء على قيد الحياة أثناء الخراب. إذ انتهى كمهرّب في منطقة الحجر الصحي في بوسطن، حيث الحياة قذرة، والموارد شحيحة، وبقايا السلطة، التي تديرها الآن وكالة حكوميّة شموليّة فاشيّة تدعى «الوكالة الفيدرالية للاستجابة للكوارث» أو FEDRA تحكم من تبقّى على قيد الحياة بقبضة من حديد.
العنف والتعسّف في فرض السلام التي تنتهجها FEDRA، ما يلبثان وينتجان تنظيمات مقاومات محليّة لا تبدو أقلّ إجراماً من الوكالة التي تحاربها. ثمّ يتغيّر شيء في جويل عندما يكلّف بتسليم إيل الشابة المراهقة (بيلا رامزي، التي اشتهرت بدورها القصير في دور ليانا مورمونت في «لعبة العروش») لمجموعة ثوريّة تقاتل لإسقاط السلطة الفاشية واستعادة الديموقراطية الليبراليّة (بوصفها زمناً ذهبيّاً مضى لكن ذلك حديث آخر) على أمل أن يتمكن متعاطفون مع الثوّار من استخدام مناعتها المفترضة لتطوير لقاح ضد الفطر. إيل اليتيمة التي ولدت ما بعد نهاية جنّة العالم الليبرالي، أي في زمان أميركا الفاشيّة المتخمة بالزومبيّات والوحوش البشريّة، مرحة وجامحة وبغيضة بشكل محبب. تنجح رويداً رويداً في تذويب قسوة جويل المكتسبة بينما يمضيان في رحلتهما المشغولة بالمخاطر التي تتجاوز سريعاً المهمّة الثوريّة ومحاولة إنقاذ العالم لتصبح أشبه بمسار شخصيّ لاستعادة المشاعر الإنسانيّة والسلام الداخليّ في مواجهة انفجار الفوضى العبثيّة، وتحوّل البشر – حتى الناجين منهم – إلى وحوش.
ليس في العمل إلى الآن (بعد حلقتين) أيّ أحداث استثنائيّة في الحبكة تلفت الانتباه أو غير مطروقة في أعمال أخرى. مع ذلك، فإن المسلسل يتمتع بثلاث قوى دفع إضافية قد تمكّنه من التفوّق على بقيّة بضاعة سوق الديستوبيا الأميركيّة، أوّلها، أن القصّة ــ رغم أنّها أمينة لسرديّة اللعبة الأصل ـــ تستكشف في ظلالها زوايا إضافيّة أو شخصيّات هامشيّة لم تحظ بتغطية كاملة في نسخة البلاي ستيشن فيما سمح وقت المسلسل بإثراء معالجتها والاستطراد جانبيّاً بين الحين والآخر وبشكل ممتع. ثانيها أنّ السّرد، وإن سمح بظهور شخصيّات ثانوية بارزة، وحلقات عنف مجانيّ وفوضى بالغة، بقي مرتكزاً بشكل محكم على الشخصيات الأساسية (جويل وإيل تحديداً) وتحولات مشاعرها، والكشف عن طبقات عمقها، ما يسمح لتقلبات الزمان الديستوبيّ بالتخلّص من تلك الشخصيّات الفرعيّة بدون التأثير على المزاج الكليّ للحكاية. أمر يناسب هواة اللعبة الأصليّة حيث شاهدوا العالم على بلاي ستيشن دائماً من منظور جويل أو إيل. أمّا ثالثهما والأهم، فهو استدعاء نسخة دراميّة مختلفة عن الكارثة الأميركيّة الآتية حيث أنظمة المجتمع ومؤسساته موجودة ومتجذّرة بما فيه الكفاية، بحيث لم تعد الكارثة الفعليّة تتعلق بكيفية إعادة بنائها من الصفر، بل بمواجهة فاشيتها وفسادها وتجبّرها في مناخ الانحطاط العام.
العنف والتعسّف في فرض السلام ينتجان تنظيمات مقاومات محليّة


يحاكي العمل لهذا الغرض دور «الوكالة الفيدرالية للاستجابة للكوارث» التي يظنّ كثيرون أنها هيئة عابرة للولايات معنية بالإنقاذ والطوارئ في مواجهة الكوارث، بينما الحقيقة التي نبه إليها مايكل روبيرت في كتابه «عبور الروبيكون» الذي ذكرناه أعلاه، أنّ هذه الهيئة التي تأسست بأمر رئاسيّ في عهد الرئيس نيكسون وتوسعت في عهد الرئيس ريغان، والمكلفة رسمياً بديمومة الدّولة الأميركيّة، تتمتع بصلاحيّات هائلة تسمح، في حال إعلان حالة طوارئ وطنيّة من قبل الرئيس، بتمكينها من إدارة البلاد على نحو يتجاوز كل القوانين والحقوق والسلطات الأخرى. ويصرّح لها بمصادرة كل الموارد والأملاك الخاصة والعامة، وفرض أحكام خاصّة على المجتمعات والأفراد، بما في ذلك تنفيذ مناطق حجر صحيّ، بدون أن يتسنّى حتى للكونغرس نفسه مراجعة الأمر الرئاسي قبل ستة أشهر. إنها وكالة ديستوبيا واقعيّة جاهزة للإطلاق في يد النخبة الحاكمة في أيّ لحظة لمواجهة أي تمرّد شعبي مستقبلي.
«متروكاً ووحيداً» تقول كلمات أغنية هانك ويليامز العتيقة التي استعارتها HBO كخلفيّة للتريلر الرسميّ للمسلسل. اختيار عبقريّ يلخص حكاية العمل في كلمتين. «آخر من تبقى منّا» مشاهدة موجعة عن ذلك الاختبار الذي تتعرض له إنسانيتنا عندما ننتهي وحيدين في مجتمعات مهزومة ومتروكة أو تحت الاحتلال. الكثرة كما علمتنا التجارب التاريخيّة، تتحول وحوشاً بشريّة بشعة، فلا يتبقى منّا سوى قلّة: أولئك الذين عندهم قلوب من ذهب.

* The Last of Us على منصة HBO