«ملحمة فينلاند» (Vinland Saga) ليس فقط مسلسل «أنِمي» مقتبساً من قصّة. مَن يعتقد ذلك بعد قراءته القصص أو مشاهدته المسلسل بجزءيه (تنتجه نتفليكس)، عليه مراجعة معلوماته بداية حول الدراما، وصنعة التمثيل، وحرفة الكتابة قبل أي شيء. لا ريب في أن مؤلّف المسلسل وصانع الشخصيات الماهر ماكوتو يوكيمورا أجاد صناعته إلى الحد الذي يجعله يخرج من عباءة مسلسلات الـ«أنِمي» المعتادة، إذ يكفي أن نشير إلى أن موقع «روتن توميتوز» النقدي الشهير قد أعطى المسلسل 91% لجودته. يملك المسلسل، بلا شك، كل ما يحتويه أي عمل «أنِمي» كلاسيكي: قصّة محبوكة جيداً، شرّير متقدّم ومتفوّق، أبطال لا منتمون، معظمهم anti-hero على الأغلب، خيال مجنون، وبالتأكيد موسيقى جميلة تمزج ذلك كله في قالبٍ محبوك. كل ذلك موجود في «الملحمة» (The Saga) كما يحبّ عشاق العمل توصيفه، ذلك أن يوكيمورا استطاع ولوج الأبعاد الإنسانية والنفسية لأبطاله إلى حدٍّ كبير، وهذا ربّما يعود إلى تأثّر عدد كبير من كتّاب الـ«أنِمي» والـ«مانغا» اليابانيين الشباب بمدرسة الكتابة الإبداعية لناحية صنعة الكتابة والاهتمام بالعمق أثناء تقديم شخصيات أبطالهم. يأتي اسم العمل – الذي بيع منه كـ«تانكوبون» (كتاب «مانغا» مجمّع) أكثر من سبعة ملايين نسخة – مأخوذاً بدايةً من اللغة النوردية ويعني جزءاً من أرض أميركا الساحلية التي يقال إنّ الفايكنغ كانوا أول من اكتشفها، واعتقدوا بأنها «الجنّة» نظراً إلى اخضرار أرضها ووفرة مواردها مقارنةً بالأرض التي سكنوها سواء أكانت الدنمارك أم النروج أم فنلندا أم إيسلندا أم غرينلاند. قصّة المسلسل، المقتبسة من وقائع تاريخية حقيقية، وإن جرى «تدريمها» (dramatization) بشكلٍ كبير، تدور حول حكاية سواين ملك الدنمارك الذي قرّر غزو إنكلترا بجيش كبيرٍ قوامه عشرة آلاف مقاتل. تاريخياً، هذا فعلاً ما حدث، وقد روته أكثر من مخطوطة من تلك المرحلة مثل «The Flatey Book» و«ملحمة الغرينلانديين» و«ملحمة إريك الأحمر»... ويشار إلى أنّ غالبية هذه المخطوطات كُتبت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. سواين ابن الملك هارالد بلوتوث (أعطى اسمه لتقنية الـ«بلوتوث» في يومنا هذا) كان آنذاك من قبل قد بلغ من الكِبَر عتياً، وخلّف ولدين: كانوت وهارالد. الأوّل خجول أنثوي بعض الشيء، كان أبعد ما يكون عن أخلاق الفايكنغ الدنماركيين وطبائعهم: كان مسيحياً ورعاً، هادئاً غير انفعالي، لا يقاتل، ولم يُعرف عنه أنه حمل سيفاً ليقاتل بيده. مع ذلك، ينجح كانوت (أحد أبطال المسلسل) في الوصول لأن يكون «كانوت العظيم» ملك إنكلترا والدنمارك والنروج كلها ليوحدها تحت مسمى «إمبراطورية بحر الشمال» (North Sea Empire). وهذا ما حصل تاريخياً بشكلٍ فعلي بين عامي 1016 و1035 قبل الميلاد حين وفاته. القصّة، وإن بدأت عند حمْلة الملك سوين، لا تخوض غمار الصراعات العنيفة بين الجيوش، بل في أدق تفاصيل الحياة البشرية لبطل العمل ثورفين، وهو ابن عملاق مقاتل يُدعى ثورز يعيشان في غرينلاند. ثورز الأب المحبّ والعطوف تجاه عائلته، لكن الصموت، يعرف المشاهدون فجأة أنه «فارّ» من الجندية لأنه أراد حياةً هادئة بعيداً عن «القتل». دعوة الملك سواين لا تردّ، من هنا يتوجّه ثورز للانضمام إلى الجيش الدنماركي الذاهب إلى إنكلترا لاحتلالها. أثناء الرحلة البحرية، تهاجمه مجموعةٌ من القراصنة الفايكنغ بقيادة أشكيلاد المحنّك والماكر والخبيث في آنٍ معاً. يفهم ثورز ساعتها أن الملك سواين هو من دبّر هذه المكيدة، لأنه خاف أن «يغدر» به ثورز وينضم إلى الإنكليز ويحارب ضدّه. كان ثورز قادراً على التغلّب على القراصنة، إلّا أن وجود ابنه ثورفين الطفل ذي السنوات الخمس آنذاك على متن القارب، وإمساك القراصنة به، جعلاه ببساطة يستسلم لقدره ويضحّي بنفسه مقابل أن يبقي القراصنة ابنه وجميع ركّاب سفينته من أهل قريته، على قيد الحياة. في مشهدٍ من أهمّ مشاهد العمل، نشاهد ثورز واقفاً على قدميه، ثابتاً، فيما السهام تخترقه من كل حدبٍ وصوب، وابنه الطفل ثورفين عند قدميه باكياً رحيله. القصة تتعقّد أكثر حين نعلم أنّ ثورفين يقرر أن يبقى مع أشكيلاد ومجموعته من القراصنة حتى يستطيع «الانتقام» منه لأنه قتل والده. هنا تبين عبقرية الـ«مانغاكا» (كاتب الـ«مانغا») يوكيمورا، إذ إنّ ثورفين يوافق على البقاء مع أشكيلاد وحتى خدمته والقتل من أجله في سبيل الحق في «مبارزته» وقتله إن استطاع انتقاماً لوالده. هذا الصراع النفسي الكبير الذي يعتمل في نفس ثورفين بدا واضحاً على كل الأصعدة: طفلٌ شهد مأساة مقتل والده أمام عينيه، يقرر العيش بشكلٍ يومي مع قاتل والده، والرغبة في الانتقام تتأجّج بشكلٍ يومي، ولكنه مع هذا مضطرّ لطاعته والامتثال لأوامره. تظهر ملامح وجه ثورفين، حركات جسده، إصراره على التدرّب يومياً، وفوق كل هذا طلبه مبارزة أشكيلاد كلما حانت الفرصة. كان أشكيلاد يستغلّ هذا الكره الموجّه نحوه لتحقيق مكاسب: كان يرسل ثورفين كجاسوس وحتى كقاتل محترف بوجه أعدائه... حتى إنّه، في لحظةٍ ما، يأمره بحماية الملك كانوت والعمل كحارس شخصيّ له. إصرار ثورفين على مبارزة أشكيلاد الذي كان يتفوّق في معظم المبارزات، كان يزيد من صمته وعقابه لذاته، فضلاً عن إصراره ألّا يعيش إلا لهذا السبب: الانتقام. في الإطار عينه، يقدّم يوكيمورا نصّاً جميلاً على كل الأصعدة، في عملٍ ذي أبعاد متوازية: يظهر لنا مثلاً لماذا كان الملك كانوت في مراحل صباه «ناعماً» ويخبرنا كيف تحوّل إلى الشخصية القيادية التي جعلته إمبراطوراً مرعباً. نهاية الجزء الأوّل من العمل، لم تكن لتقلّ أهميةً عن بدايته، وإن كانت البداية لا تشي أبداً بتطور الشخصيات إلى هذا الحد، فإنّ النهاية تقدّم الكثير من الأسئلة وتطرح إشكاليات، على الرغم من أنّها تبدو من أكثر النهايات منطقية لمسلسل بهذا الحجم.
موقع «روتن توميتوز» النقدي الشهير أعطى المسلسل 91% لجودته

تقنياً، يأتي المسلسل أقرب إلى المسلسلات التي ينسى مُشاهدُها أنه أمام مسلسل رسومٍ متحرّكة، ذلك أن شدّة عمق القصة، وحبكتها القوية، وفوق كل هذا الحوارات والشخصيات المسبوكة بعناية، تجعله مشدوهاً بالكم الهائل من المفاجآت في كل حلقة من جهة، ومن جهةٍ أخرى، كيفية تأدية الشخصيات التي لا تبدو شخصياتٍ رسومية البتة. نحن أمام حرفةٍ عالية من صانع العمل ومنتجيه. تتحصّل الشخصيات على واقعية مدهشة، كأنما هو تمثيلٌ واقعي لشخصيات متخيّلة، ولا ريب في أنّ تحويل هذا المسلسل تحديداً إلى مسلسل «live-action» واقعي/ أدائي بات قريباً للغاية، خصوصاً مع نية صنّاع العمل الدخول إلى هذا العالم بعد نجاح الجزء الأوّل والانتهاء من الجزء الثاني الذي يُعرض حالياً على الشبكة التدفقية ذاتها. في الإطار عينه، يُحسب للعمل كثيراً القصص الجانبية التي تمرّ «هكذا»، بهدوء، حتى لتبدو كما لو أنّها عشوائية، إلا أنّ ترتيبها يقدّم للمُشاهد تفاصيل أكثر حول الشخصيات وعمقها: مثلاً راجنار، وهو مربّي الأمير كانوت وشخصية إيجابية في مجمل لحظات ظهوره، لا يعترض على ارتكاب جنود أشكيلاد مجزرة في قريةٍ برمّتها، لأن ذلك «سيحمي» أميره الشاب كانوت بشكلٍ أو بآخر. في مشهد القرية ذاته، نجد حكاية الفتاة التي استطاعت أن تفرّ من «المجزرة»، لكنها مع ذلك تقع فريسة تجّار العبيد. إنّه واقع تلك المرحلة الزمنية بكلّ ما فيه من بشاعة مقزّزة ووحشية لا حدود لها.يمتاز مسلسل «ملحمة فينلاند» بأنّه يقدّم للمُشاهد وجبةً دسمةً، وهو ليس للأطفال أبداً لسببَين أوّلهما كمّية العنف والدم والوحشية فيه، وثانيهما القصّة ذات الأبعاد الكثيرة والعميقة التي لن يلتقطها الصغار. باختصار، إنّه أحد أهمّ مسلسلات الـ«أنِمي»، ولا يقلّ نهائياً عن قامات كبيرة في عالم الـ«أنِمي» مثل «هجوم العمالقة» (Attack on Titan) أو «مذكّرة الموت» (Death Note).

* Vinland Saga على نتفليكس