هذا نيتشه آخر، استبدل «زردشت» بـ«المصطفى». اخترع نبياً بوصايا روحانية مؤثّرة، وخطبة وداع لم تفقد صلاحيتها إلى اليوم لجهة تصدير المحبة إلى عموم الكوكب! لن نستغرب إذاً، حضور «نبي» جبران خليل جبران (1883- 1931)، بعد مئة سنة على ولادته، كما لو أنه لم يغب يوماً. كتاب سيجول العالم بأكثر من 100 لغة، وبملايين النسخ، كما سيحتل مكانة خاصة بين أهم مئة عمل في القرن العشرين. وضع صاحب «الأجنحة المتكسّرة» خلاصة أفكاره التأملية في كتابه «النبي» بلغة إنكليزية مشبعة بالمجازات والاستعارات الناتئة «كتماثيل محفورة في صخر» وفقاً لما قاله ميخائيل نعيمة في تقديمه للترجمة العربية للكتاب.
جبران خليل جبران ـ «المصطفى ـ النبي» (غرافيت على ورق «دارتموث بوند» ـ حوالي عام 1923 أو بعده)

هكذا تماهى جبران مع نبيّه، فاختلط عليه الأمر. يقول في رسالة موجهة إلى مي زيادة: «ماذا عسى أقول لك عن هذا النبي؟ هو ولادتي الثانية ومعموديتي الأولى. لقد وضعني هذا النبي قبل أن أحاول وضعه. سيّرني صامتاً وراءه سبعة آلاف فرسخ، قبل أن يقف ليملي عليّ ميوله». ويشير روبن ووترفيلد في كتابه «نبي وعصره»، إلى أن جبران «أُغرم بالصورة التي رسمها لنفسه، وحرص على إقناع معارفه بها، صورة رجل معتزل، متقشّف، بل معذّب. امّحت شخصيته الرومانسية الكئيبة أمام شخصيته شبه نبي». هذه الصورة الطهرانية، تسعى إلى حجب حياته العاطفية الجيّاشة، ومغامراته الحسيّة وتعقيدات حياته المضطربة بكل تناقضاتها، إذ استسلم لأسطورة شخصية صنعها بيديه بقصد تحقيق ذاته، و«حرية العيش في الفضيلة». استقبل النقّاد الكتاب لحظة ظهوره بعدم اكتراث، فهو «مغرق في الشرقية ولا يتلاءم مع شهية الروح الغربية المتينة»، و«إن الفلسفة الشرقية وسيلة للهروب من حقائق الوجود والعالم». ضربة تقريظية مضادة من صحيفة «إيفنينغ بوست شيكاغو» أعادت الكتاب إلى الواجهة، إذ اعتبرته «كتاباً مقدّساً» ممتلئاً بالحقائق، ومثالياً في «عصر يتميّز بالكلبية».
في استرجاع كتابات جبران المبكرة، سنقع على إشارات أولى، سوف تصب لاحقاً في مجرى «النبي»، سواء في كتابه «الموسيقى» (1905)، أو شخصية «يوحنا المجنون» في «عرائس المروج» (1906)، أو «خليل الكافر» في «الأرواح المتمرّدة» (1908). شخصيات تنطوي على روح متمردة، ورفض للشرائع المزيّفة، وسعي محموم لتأسيس مفاهيم جديدة. ففي «دمعة وابتسامة» يجاهر أخيراً بصوته النبوي «جئت لأقول كلمة، وسأقولها» باقتباس صريح من إنجيل يوحنا. هذه الاعترافات وضعته في خندق الإلحاد، ما قاده إلى الإحباط واليأس والسخط. يتساءل في «المجنون»: «لمَ أنا ههنا وأنا ثمرة عجفاء لم تنل بعد شهوتها من النماء، وعاصفة صمّاء هوجاء لا شرقاً تبتغي ولا غرباً؟».
في «النبي»، يترقّب (المصطفى) عودة السفينة التي ستبحر به إلى موطنه الأصلي، بعدما أمضى اثنتي عشرة سنة في مدينة «أورفليس»، مستسلماً للموت بيقين الولادة ثانيةً: «لا أستطيع أن أبطئ في سفري. فإن البحر الذي يدعو كل الأشياء إليه يستدعيني، فيجب عليّ أن أركب سفينتي وأسير في الحال إلى قلبه». سوف يكمل جبران رحلته المقدّسة في «رمل وزبد» وقد زيّنه بتخطيطات رسمها بنفسه. أفكار وتأملات صوفية هي ثمرة عزلة جبران ووحشته بعدما رحلت معشوقته ماري هاسكل. كنّا نظن أن أعمال جبران خليل جبران هي تمرينات أولية في القراءة بما يوافق الرومانسية المبكرة، إلا أن تداول كتبه بضراوة ينطوي على ظاهرة أدبية مذهلة حطّمت الأرقام القياسية في القراءات المتعاقبة، جيلاً وراء آخر. من جهته، يقول أمين معلوف عن هذا الكتاب بأنه «غدا كتاباً مقدّساً صغيراً لعدد لا يُحصى من القرّاء، واستمر مع ذلك ينتشر في المجال، كأنه تحت معطف، كأنه تحت عشرات ملايين المعاطف».