شغلَ موضوعُ الخير والشرّ فكر الإنسان منذ فجر الخليقة حتَّى اليوم. فالصراعُ بينهما أَزليٌّ بدأَ مع نشأَة الحياة، ولن ينتهي إلا إذا تحقَّقت الغلبةُ لأَيٍّ منهما على الآخر. فإمَّا أَن تستحيل الأَرضُ فردوساً مُقيماً، وإمَّا أَن تغدو جحيماً تَجثُمُ على صدره الحروب والويلات والشقاء. منذ بدءِ الأَزمنة، كان الأَنبياءُ والهُداة والمُصلحون وسواهم من دُعاة الحقّ والفضيلة والعدالة، دائبي الحضور في ساحة الصراع، يُسهمون، كلٌّ منهم بمقدار، في توجيه مساره بما يُحقِّقُ هداية الإنسان وانتزاعه من جاذبيَّة الشرّ. قد كان للآخرين، حضورهم المؤَثِّر في الحضِّ على انتهاج سُبُل الخير. منذ القِدَم، لم تَعدَم بعضُ الأُمم والشعوب مفكِّرين كباراً أَسرَتهم أَلغازُ الحياة، فسعوا إلى اكتناه خفاياها عن طريق العقل والمنطق. وكانت بلاد اليونان أَوَّل مَن أَطلق على ذلك النشاط الفكريّ مُصطلح «الفلسفة»، أَي «محبَّة الحكمة».

ويرجِّحُ بعضُ الفلاسفة القُدامى أَن يكون سقراط (469-399 ق.م) أَوَّل من استخدم هذا المصطلح، ولكنْ بالمفهوم الأَخلاقيّ، أَي بمعنى «محبَّة الحكمة الخُلقيَّة». بلغت الفلسفة مع سُقراط قمَّةً في رِفعة الشأن، نظراً إلى ما اتَّصف به من بحثٍ عن الحقيقة ونشرها، وشدَّة مِراسٍ في الجدَل، يرفدُها إيمانٌ عظيمٌ باللَّه، وضميرٌ حُرّ، وعقلٌ مُتَّزن، وجرأَةٌ في قول الحقّ، وتواضعٌ عظيم، وسلوكٌ مثاليّ، وإعراضٌ عن مباذل الحياة، واستهانةٌ بالموت، وتُوِّجُها اعتقادٌ يقينيٌّ راسخٌ لديه بأَنَّه يحملُ على عاتقه أَعباءَ رسالة أَفصح مراراً عنها وذلك الصوت الإلهيّ، حتَّى خلال الدفاع الذي قدَّمه أَمام قضاته الـ500 الذين حاكموه في أَثينا بتهمة إفساد الشبيبة وزعزعة عقائد العامَّة، وقد قام تلميذُه أَفلاطون بتدوينه بعد إعدامه، وأَطلق عليه اسم «دفاع سقراط».
في فصلٍ من ذلك الكتاب، تحت عنوان «الثبات في تأدية الرسالة»، يُعلنُ سُقراط أَمام قُضاته أَنَّه يَقصرُ أَحقِّيَّة الطاعة على اللَّه وحده، وأَنَّه سيدأَبُ على دراسة الفلسفة ونشرها وإنْ أَدَّى به ذلك إلى حَتْفه، ويُصارحُهم في أَمر الوحي الإلهيِّ الممنُوح له، قائلاً: «يا رجال أَثينا، إنِّي أُجلُّكم وأُحبُّكم، ولكنَّ اللَّه أَحقُّ بأَن يُطاع. وما دامت فيَّ نسمةُ حياة وتسنَّى لي، فلن أَكُفَّ عن درس الفلسفة، ولن أَكُفَّ عن أَن أُحرِّضَ وأَنصحَ كلَّ واحدٍ منكم، مُردِّداً ما قد أَلفتُ تَرداده: «أَلا تَربأُ بنفسكَ، يا صديق، وأَنتَ أَثينيٌّ من أَعظم وأَشهر حاضرة، حكمةً واقتداراً، أَن تَصرفَ عنايتك إلى الغنى وأَسباب تنميته، بدل أَن تَقصرَ نفسكَ على طلَب المجد والشرف، ونَيْل الحكمة، والتبصُّر في حقيقة نفسك لتَزينها بزينة الكمال؟. ولا يُخالجكم ريبٌ أَنَّ ذلك ما يقصدُه اللَّه من وحيه، وليس في طاقة يدي أَن أَصطنعَ لمدينتكم معروفاً أَجملَ من تفرُّغي لخدمة اللَّه، بحيث لا يَشغلُني في تَطوافي شاغلٌ سوى أَن أَحُثَّكم، أَنتم الفتيان والشيوخ، أَن لا تُؤثروا الاهتمام بأَجسادكم وأَموالكم على الاهتمام بالنفس، لأَنَّها أَفضلُ جزءٍ فيكم... وفوق هذا أَقولُ لكم، يا رجال أَثينا: أَطلقوني أَو أَبرزوا حُكمكم فيَّ؛ فتلك خطَّتي لا أَتحوَّلُ عنها ولو أُلجئتُ أَن أَموتَ مراراً». تميَّز سقراط عن جميع أَقرانه من الفلاسفة بنشاطه الترسُّليّ الذي كانت تُتوِّجُه سيرتُه المثاليَّةُ وبفلسفته الداعية إلى الفضيلة. أَعطى، بسيرته وفلسفته، أُمثولة العظَمة، لا لشعبه فحسب، بل للإنسانيَّة كلِّها! أُمثولةٌ جاوزَت حدود وطنه الذي ظلمَه إلى رحاب الأَوطان كلِّها، وتردَّدَت على مسامع الأُمم والشعوب كافَّة.
أَطلق الشاعرُ البريطانيّ شِيلي (1792-1822) على سُقراط لقب «مسيح اليونان»، واعتبر أَكليمندس الإسكندريّ (150-215م) «محاورات سقراط» بأَنَّها توطئة النصرانيَّة، وديباجة إنجيل يسوع المسيح». وقال فيه الأَديب إيزيدور أَبو حنَّا، مُترجمُ كتاب «دفاع سقراط» من اليونانيَّة إلى العربيَّة بلغته المُبدعة: «ما أَشبه وقفة سُقراط أَمام القُضاة بوقفة السيِّد المسيح أَمام بيلاطُس ليُحاسَبَ على برِّه وإحسانه إلى بني وطنه!». كما جاد خاطرُ الشاعر الإنكليزيّ فريدريك وليام فابر (1814-1863) بكلمةٍ مُبدعة فيه، إذ قال: «لا أَجملَ من نهاية شهيد أَثينا إلا نهاية شهيد أُورشليم!».
«أَن تكون فيلسوفاً»، يقولُ سقراط، «لا يستدعي أَن تعرف الكثير من الأَشياء، بل أَن تكون زاهداً!» ولذلك اعتبره الفيلسوفُ الأَلمانيّ هيغل (1770-1831) «بطلاً من أَبطال الإنسانيَّة، وفيلسوفاً حقيقياً، لأَنَّه عاش فلسفته بدلَ أَن يكتبها».
إنَّ سقراط العظيم وأَمثاله لا يموتون! فهم، كما الأَنبياء والرسُل، أَحياءٌ خالدون على مرِّ العصور والدهور!

* كاتب لبنانيّ مقيم في كندا