تكتسب الأفلام المستندة إلى حدثٍ تاريخي قيمة مضاعفةً. فالحدث التاريخي يمنح ثقلاً للسرديّة قبل تحويلها إلى مُنتج بصري. لذا، فالزخم الزمني والتاريخي يدفع بالفيلم إلى مساحة آمنة، ولكنه في الوقت عينه يفرض حدوداً إبداعيّة نظراً إلى الالتزام بالفترة الزمنيّة والمنطق التأريخي المكاني والاجتماعي. لذلك تبدو بعض الأفلمات التاريخيّة أكثر تقريريةً أو على العكس يُمكن أن تكون أشد تطرّفاً، بحيث تأخذ الأسماء والأماكن والفترة التاريخيّة، وتحوّلها إلى واقع تاريخي مُختلف في سيرانه السردي لكنه يُفضي إلى النتيجة ذاتها. انفتاح المُخيّلة على الأعمال التاريخيّة، يُمكن أن يصنع فيلماً ممتازاً أو خيبة أمل كبرى. وهذا يتوقّف على المُعالجة الدرامية الجيدة، والاشتباك مع الحدث في نقاط أكثر ديناميكية، لتحويله من تأريخ تقريري مسموع ومقروء بل معروف أيضاً ببدايته ونهايته، إلى حدثٍ مُكثّف داخلياً، يقارب مناطق أكثر إنسانيّة من الشواهد التاريخية، ويبتكر طُرقاً بصرية لتمرير المعلومات بشكل أخف وأعمق، لكنه في الوقت ذاته يحمل الثِقل والأهميّة التاريخية نفسيهما.يتعرّض فيلم «الأرجنتين: 1985» الذي يمثّل الأرجنتين في أوسكار 2023، إحدى أشهر المُحاكمات في التاريخ. مُحاكمة الشعب لـ «المجلس العسكريّ الأرجنتيني ــ الخونتا»؛ بعدما قاد البلاد في حقبة ديكتاتورية مُظلمة، استمرّت بين عامَي 1976 و1983. فرادة الحدث داخل سياقه الزمني، تُضفي مسحةً من الضخامة على العمل كونه مُتطرّفاً منذ البداية، وتمنحه طابعاً متمرّداً وثورياً، ليس لأنه مُهم ومؤثّر في سيران المجرى التاريخي والنمط الاجتماعي الأرجنتيني، بل لأنها أول مُحاكمة مدنيّة لمجلسٍ عسكري؛ بحيث تؤرّخ كولادة لهذا النوع من المُحاكمات، حيث شعبٌ، مُمثّل في المُدّعي العام خوليو ستريسا (ريكاردو دارين) وفريقه، يحاكم حُكامه الديكتاتوريين بقانون مدني وليس عسكرياً، ما جعلها تُضاهي في أهميتها مُحاكمة نورنبيرغ، أشهر مُحاكمة في التاريخ الحديث، المنوطة بمُعاقبة مُجرمي الحرب العالمية الثانية.
أراد المُخرِج الأرجنتيني سانتياغو ميتري صناعة فيلم مختلف عن النوعيّة المعهودة لأفلام المُحاكمات المشهورة، فآثر خلق إيقاع كان بمثابة نسيج لسرديّة مُقلقة وهادئة في آن. إيقاع أبطأ من المُعتاد، لا يقصر الأحداث على الظرف المكاني. يرفُض أن ينغمر تحت طبقاتٍ من الجلسات القضائية والشهادات داخل المحكمة لأنه بتركيزه على المناخ الداخلي والتفاصيل الجوّانيّة سيكبح امتداد القصّة الاجتماعي ويحدده داخل دائرة الواقعة التاريخيّة. على العكس من ذلك؛ يخلق المُخرِج عالماً أكثر تحرراً، لكنّه لا يخلّ بالجانب التاريخي، بل يؤسس لتفريعات لها وقعها المؤثّر على تكوين العالم، ويمنح الشخصيّات مجازات فعليّة تُضيف للفيلم طبقات جديدة سواء اجتماعياً أو سياسياً، ليحوّل مشهداً قصيراً يدور في الرواق، حيث يُقابل مُحامي المجلس الفاشي خوليو وفريقه المكوّن من الشباب المُثابر حديث التخرّج؛ إلى لقطة مفتاحية ذات دلالة اجتماعيّة، كونه يُرسّخ لجانبين مُتصارعين، كُل منهما يعكس جانباً اجتماعياً مختلفاً تماماً. جيلٌ من الشباب المُتمرّد الثوري، ضد جيل من الشيوخ ما زال يشيح وجهه عن مشهد سقوطه. تُلمّح هذه اللقطات لصراعٍ يتجاوز الطبقة الاجتماعيّة ويتسع ليشمل النظام الاجتماعي ككُل، فهو يرصُد مفاهيم الحُكم المُطلق وعلى الجانب الآخر يُعزز التمرّد المُحبب والثقة الحميمية بالشباب.
إذا دققنا في أعمال سانتياغو ميتري السابقة، سنُلاحظ مقاربته للحوادث والوقائع السياسية والتاريخيّة كأساس لبناء عوالمه الفيلمية. فيلمه السابق «القمّة» وبعض السيناريوات التي شارك فيها؛ تنضح بفاعليّة سياسيّة واجتماعيّة وانجذاب تاريخي، بالإضافة إلى أنّ المُخرِج وطاقم العمل اشتهرا بتجارب سينمائية سابقة، سواء بمُشاركة ميتري كمُخرِج أو ككاتب. علماً أن ماريانو ليناس أحد المُشاركين في الكتابة، عمِل قِبلاً على أعمال ذات وجهة سياسيّة، ما يُفسّر جودة السيناريو والقيمة البصريّة، فجودة العمل تأتي من خبرة صانعيه من تجارب سابقة في نفس الحيز النوعي.
يرسم شكل العلاقة الراهنة بين الفرد والنظام الفاشي


تتوخى سرديّة سانتياغو ميتري ما هو أكثر من الواقع التاريخي، وتتحرّى ببُطء وثبات ما يلُف الواقعة الرئيسية من حوادث. وبناءً عليه؛ قلّص المخرج مشاهد المُحاكمة، لصالح خطوط جانبيّة تُحفّز لدى الجمهور شعوراً بالخطر، وتمنح الحدث جاذبية وثِقلاً تاريخياً، فيستهل فيلمه بتسلسل مشهدي أقرب إلى نوعيّة الإثارة والغموض. نعرف بعدها أن الأمر ينحصر في ابنه الصغير المُكلّف من قِبل والده بمُراقبة أخته الكُبرى التي تواعد شخصاً غامضاً بالنسبة إلى الأب. مدخل الفيلم يُثير مشاعر مُلتبسة، ويُحيلنا إلى استنتاج آخر، حين نربط الأمور ببعضها، ونعرف أن خوليو يُفترض أن يكون المُدعي العام لقضيّة المجلس العسكري، إحدى أشهر المُحاكمات في التاريخ. وخلال معرفتنا لذلك، ينهال عليه سيل من التهديدات، فالأرجنتين كانت وقتها في حالة فوضى، بيد أنهم كانوا يملكون اليقين والثقة الكافية للوصول إلى بر الأمان.
خلاف كُل المحامين والنوّاب، يرفض خوليو ستريسا أن يكون المُدعي العام في محاكمة تاريخيّة يُفترض أن تُغري كُل رجال القانون لقيمتها التاريخيّة، وقُدرتها على منحهم بطولاتٍ شرفيّة ستبقى إلى الأبد. يرفض خوفاً على حياة عائلته أولاً، بالإضافة إلى أنّه افتقد اليقين الكافي في تحقيق مُحاكمة مدنيّة شريفة بعيداً عن التلاعب. إدراكه للتصوّر الأكثر واقعيّة للحدوث في ظل ظروفه الراهنة؛ حال بينه وبين المحكمة، لكنه قرر بعدها أخذ المُخاطرة، والحقيقة أن استيعابه لمفاهيم الدولة الفاشيّة جعل من القصة الأساسية سرديّة مُتفرّدة، لأنها لا تفتقد إلى الواقعيّة، وتخرج عن نمطيّة الأبطال السائدة في هذا النوع. إلى جانب ذلك، يُطعّم المُخرِج أقاصيصه الجانبيّة بلمحات من الكوميديا المحبّبة، عبر اشتباكه مع الجيل الأصغر، وخلق مفارقات بين الأجيال وصُنع لحظات أكثر حميمية بالنسبة إلى المُشاهد.
يُغرقنا الفيلم أكثر داخل الأمور اللوجستيّة، بدايةً من انخراط خوليو في انتقاء الفريق الخاص به إلى جانب المُدعي العام الثاني لويس مورينو أوكامبو (خوان بيدرو لانزاني)، مروراً بمهمّات الفرق ومنهجيّة البحث في الجرائم على مدى واسع، وصولاً إلى شهادات المجني عليهم في المحاكم. وقد منحها المُخرِج عدداً لا بأس به من الدقائق، كونها مادةً أساسيّة يستوجب وجودها لبناء وجهة نظر جماعيّة تُرجّح كفّة المجني عليهم وتُظهِر حجم الجرائم المُرتكبة. المُخرِج لا يتعاطى مع الحدث بشكل مُستقل عن الحياة الاجتماعيّة، بل يركّز دوماً على أنّ المُحاكمة هي عمليّة الخروج والانفلات من براثن الديكتاتوريّة إلى الديموقراطيّة والسلام الشعبي. تتبدى تلك المفاهيم بصرياً في أكثر من مشهد، أكثرها وضوحاً تعجرف الجناة في مقاعدهم، جلوسهم مُتفاخرين ببدلاتهم العسكريّة، شتمهم للعامة على الملأ... تلك المشاهد تُرسّخ لنظريّة عسكريّة وشمولية مُتحجّرة، لا تتطلّب التعديل بقدر ما تحتاج للإمحاء بشكلٍ كامل.
يكشف التسلسل الدرامي عن قلقٍ وجودي كامن في النظام الاجتماعي. قلقٌ يؤسس لشعورٍ مرتبك يطبع سلوك الفرد داخل المنظومة، يتبدى من خلال التعرّض لأُسَر الشخصيّات من الداخل، فعلاقة الأب خوليو بأولاده، والابن لويس مورينو بأمه، تُجسّد نوعاً من الارتباك، تتبدى في تغيّر أفعالهم النهائية مُقارنة بنيّتهم المبدئية. في البداية يحاول خوليو نقل عائلته إلى مكان أكثر أماناً خوفاً من التهديدات، ومن ثم يتحوّل الخوف إلى استخفاف كاشف لطبيعة العلاقة بين التصرّف المُفترض حدوثه، وما يحدُث بالفِعل. فالأب يُفاجأ باستقبال العائلة لمُكالمات ورسائل التهديد باستخفافٍ كوميدي.
تعاطي الشخصيّات مع الإشكاليات المُبطّنة بالخطر؛ يرسم شكل العلاقة الراهنة بين الفرد والنظام الفاشي. علاقة مرنة تقوم على التكيّف حتى مع التهديدات، تنطلق من الخوف وتنتهي بالمواجهة، فطبيعة وجود النظام الفاشي على حافة الهلاك، تمحو الرؤية المُرسّخة للفِعل المُحتّم، والأمر الواجب التنفيذ. وفي ذلك الوقت، كُل شيء لا يؤخذ على محمل الجد، حتى الفتى التي كانت تواعده ابنة خوليو، كان متزوّجاً، الغريب أنها عرفت ذلك من البداية، وعرفت أن والدها يُراقبها أيضاً؛ هكذا تُدار الأمور في سرديّة المُخرِج، تحمل من الجديّة بقدر ما تحمل من العبث، يرصُد المُخرج هذه العلاقة المُلتبسة مرّة أخر في مشهد ركض لويس مورينو من الحفل، ثُم مواجهة نفس الأشخاص في المحاكمة، إلى جانب علاقة مورينو بأمه، وتبدّلها في نهاية الفيلم، تلك المشاهد تُثقل السرديّة وتُكثّف حضورها خارج الحدث التاريخي، تمنحها رونقاً اجتماعياً وتناقضاً صحّياً يكشف الحقبة الاجتماعية.