لم يشأ محمد ملص أن تتجوّل عدسته خارج المرسم، لفرط ثراء المكان، وأصالة محتوياته، ونُبل من يشغله. سنكتشف منذ اللقطة الأولى أننا في ضيافة يوسف عبدلكي (1951). بيت قديم في حي ساروجة الدمشقي، تتوسط باحته شجرة كباد، ويتوزّع جدرانه أرشيف هذا التشكيلي العنيد. شريط وثائقي بنبرة روائية حمل عنوان «أنا يوسف يا أبي» (إنتاج «دنيا فيلم»)، حقّقه المخرج السوري المعروف على مدى أشهر. جلسات متتالية لنبش مخزون أحد أصدقائه القدامى، أولئك الذين وشموا حقبة السبعينيات وما تلاها، بتوقيع مضاد. على الأرجح رغب صاحب «أحلام المدينة» أن يؤرخ لهموم جيله في المقام الأول، وأن يقبض على آخر حفنة جمر في الموقد، قبل أن تذروه الرياح، وتالياً صوغ بورتريه بصري لإحدى علاماته المتفرّدة. يعترف يوسف عبدلكي أولاً، بأنه مدين لوالده، في توجهاته الفكرية، مستعيداً صورته من ضباب اللحظة: «كان والدي شيوعياً حتى العظم، وقد سجن 12 مرةً في الأربعينيات والخمسينيات. وكاد في إحداها أن يموت من التعذيب، لولا قوّادة مشهورة في مدينة القامشلي اسمها «كوليتزار». هذه المرأة التي فتنت رجال المدينة في الخمسينيات، أهداها عبدلكي كتاب رسومه، كنوع من دين مؤجل، ألم تنقذ والده من موت مؤكد؟ يروي الحكاية بشغف: «كانت كوليتزار في زيارة إلى مدير فرع الأمن، وخلال عبورها الباب المؤدي إلى المكان، هالها منظر رجل مكوّم تسيل منه الدماء، ينهال عليه رجال بالضرب. أبعدتهم عنه وحضنته فتلوّث ثوبها الأبيض بالدماء، وأمرت مدير الفرع بالإفراج عنه فوراً، ولأنه لا يستطيع أن يرفض لها طلباً، وافق مرغماً على طلبها حالاً». تنهب الكاميرا تواريخ اللوحات ومراحلها بمواكبة ذاكرة مشتعلة، على خلفية موسيقى توفيق فروخ، من المرحلة الباريسية وصولاً إلى اليوم: أحصنة متمرّدة، وأسماك مقطوعة الرأس بحدقات مفتوحة على اتساع، كأنها ترفض موتها. زهور ذابلة، وجماجم، وطبيعة ميتة، وأشياء بسيطة لطالما كانت مهملة في الجوار، منحها هذا الغرافيكي الصارم، رصانة التكوين وقوة الخطوط في نفَس تعبيري صريح. وستعبر بعض لوحات العاري من دون تعليق، رغم الجدل الذي أثارته هذه الأعمال في المحترف السوري، لكن نظرة شاملة لمنجز هذا التشكيلي الاستثنائي، تؤكد على روح احتجاجية، وشهادة على حالات قمع وعسف وهتك وخراب. في الشريط، لن نجد خطاً فاصلاً بين سيرة يوسف عبدلكي التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، عنوانه العناد والنبل والنزاهة. هو لم يحد يوماً عن قناعاته الفكرية ولم يساوم عليها، ولم يخذله قلم الفحم في هتك طبقات الجحيم، وألوان العار، وأرشيف العسف. سيرة نموذجية لمن اختار الذهاب إلى الضفة المضادة بفواتيرها الباهظة.
«أنا يوسف يا أبي» بورتريه حنين، ووثيقة لتأريخ الفن المضاد


نحن إذاً إزاء فجيعة تتناسل من العتمة عبر ضربات نزقة في معالجات غرافيكيّة صارمة تنطوي على قدرة عالية لجهة الإتقان والكثافة البصرية المكتنزة بالإشارات، فوراء هذه السكينة المراوغة، والموت المجلّل بالصمت والعزلة والسخط، يكمن الجرح المفتوح على أطياف المحنة السورية، كأن عبدلكي لا يغادر لوحته، قبل أن يطمئن إلى مصائر كائناته في عزلتها وجحيمها وتوقها إلى التنفس خارج هذا العالم الكتيم. نراقب في مشهديات لاحقة، حركة قلم الفحم لحظة إنهاء إحدى الجداريات، فتبزغ طهرانية الأبيض والأسود في توثيق شجن الوجوه والعيون المتحديّة. نساء متّشحات بالسواد، وبراويز لوجوه من غابوا في الحرب والمنافي والقبور. بشر برؤوس مقطوعة، وشهداء، وقديسون، ومفقودون، ودماء تسيل على الجدران، أو من آنية زهور، أو من طبقٍ فارغ، مستعيناً بعبارات مقتبسة من أغنيات شعبية، بما يشبه المراثي الجماعية، أو النحيب الصامت، أو طقوس الندب. هكذا ذهب عبدلكي إلى توثيق تراجيديا الموت بوصفها «حادثاً مأساوياً بحق الأفراد». وإذا بأرشيف الموتى يزداد قتامةً وثقلاً وأسى، عملاً تلو آخر في جنازٍ طويل لهلاكنا المقبل، في ولائم الطيور الميتة، والجماجم، والأسماك المثبّتة بالمسامير والحبال، والسكاكين المغروزة بعنف، والأزهار الذابلة، والتوابيت. خارج هذا الفضاء السوداوي، سنأنس إلى ألفة المرسم، ظلال الأبواب المفتوحة والشبابيك، وغرفة الأرشيف، الغرفة التي يلجأ إليها يوسف لمحاكمة ما صنعه في نهاية يوم عمل شاق. وثائقي «أنا يوسف يا أبي» (59 دقيقة) الذي شاهدناه في عرضٍ خاص أخيراً، بورتريه حنين، ووثيقة لتأريخ الفن المضاد، بكاميرا ثابتة احتضنت الرسّام ولوحته في كادرٍ تأمّلي واحد.