على مدى السنوات الأربعين الماضية، أي منذ مطلع الثمانينيات، فرضت النيوليبرالية، التي تقول بضرورة تنحية الدولة في المجال الاقتصادي، نفسها في ميدانَي الفكر والممارسة، بل أصبحت الفكر الوحيد المهيمن. واحتلت ساحة الممارسة من خلال أدبيات «صندوق النقد الدولي» و«البنك الدولي» وبرامجهما. لم تكن النتائج باهرة، بل إن أوضاع العالم، وخصوصاً البلدان النامية، تراجعت وتفشّى فيها الفقر والبطالة بشكل لم يسبق له مثيل.ولقد كان حسن الطالع هو الذي جعلنا نكتشف وجود تيارات فكرية مثل تيار «المؤسساتية المقارنة» وتيار «ما بعد الكينزية» وتيار «البنيوية الجديدة». وهي تمثّل استمراراً لأفضل ما قدمه الفكر البشري في مجال التنمية. أثبت تيار «المؤسساتية التاريخية» بعد الحرب العالمية الثانية استحالة التنمية من دون دور فاعل للدولة فيها. واستكمل الجيل الثاني من المؤسساتيين منذ الثمانينيات النقاش حول دور الدولة في التنمية من خلال التركيز على ما قدمته الدولة التنموية في شرق آسيا.
أما تيار ما بعد الكينزية، فمثّل بدوره بدءاً من الثمانينيات عودة إلى كينز الأصلي، وهو الذي أكّد أنه يستحيل تحقيق النمو الاقتصادي بالاتّكال على الاستثمار الخاص فقط. وأكّد أن على الدولة أن تتدخّل كـ«مستثمر أول» إذا تحوّل المستثمرون إلى مضاربين في البورصة وتخلوا عن مسؤولية الاستثمار المنتج. وقد وفّر هذا التيار تتبّعاً للممارسات النيوليبرالية على مدى السنوات الأربعين الماضية وقدّم نقداً صارماً لها، ووفّر بديلاً عنها في ميدان السياسة الاقتصادية وحقق النمو والاستخدام الكامل للقوى العاملة.
وأظهر تيّار «البنيوية الجديدة» أن ثمة تراتبية على المستوى الدولي. فهناك دولة مسيطرة ودول تمارس «هيمنة جماعية» من جهة، ودول مستزلمة من جهة أخرى تربطها بالأولى علاقة تبعية. وأظهر أنه لا ينفع تجاهل واقع التراتبية والاستزلام هذا، لأنه العنصر المحدد في مآل التنمية لكل بلد بعينه.
تناول كتاب «تيارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية» في موضوع التنمية العربية، موضوعات الإدارة العامة والتعليم العالي و«التصنيع المتأخّر» وموضوع العلاقة مع النظام الدولي. واعتبر أن هذه المواضيع هي التي يجب أن تكون موضع النقاش في أي بحث جدي حول ما يعيق التنمية العربية. وكان إسهام «تيار المؤسساتية المقارنة» الكبير أنه بيّن أن وجود إدارة حكومية فعّالة جرى تنسيب أفرادها على قاعدة الاستحقاق، هو العنصر الأول والمحدِّد في نجاح التنمية أو فشلها. وأظهرت أدبيات هذا التيار أن التنمية هي «التصنيع المتأخّر»، وأن أي تعريف للتنمية يتجاهل كونها «تصنيعاً متأخراً» هو كلام من غير طائل. وربط الكتاب بين نجاح أو فشل التنمية العربية، وبين العلاقة التي ينسجها العرب كدول وشعوب مع النظام الدولي. وطرح الكتاب أهمية أن تكون هذه الموضوعات هي محاور النقاش لفهم ما يعيق التنمية العربية، وأن تكون دراستها، أي دراسة حالة الإدارة العامة وحالة التعليم العالي وحالة «التصنيع المتأخّر» وحالة العلاقة مع النظام الدولي هي المدخل لإشراع تنمية عربية حقيقية.
ووفّر النص الثالث من الكتاب استعادة للسياسات البديلة في ميدان التنمية كما أوحت بها التجربة الآسيوية. وهي الوحيدة التي أتاحت للبلدان التي اعتمدتها الخروج من التخلّف وتحقيق «تصنيعها
المتأخّر». قدّم الكتاب دليلاً نظرياً لسياسات التنمية العربية البديلة من خلال المدارس الفكرية الثلاث التي تم استعراضها. ووفّر دليلاً عملياً لهذه السياسات من خلال ما اقترحه في ميادين الإدارة العامة وكيفية الانخراط في العلاقات الدولية والتعليم العالي والتصنيع. وأضاف دليلاً من خلال استعراض ما أتاحته التجربة الآسيوية من ممارسات وما وفّرته من دروس.
هذا الكتاب هو ثمرة تدريس مقررات «اقتصاد التنمية» و«تيارات الفكر الاقتصادي المعاصر والتنمية» و«الاقتصاد ما بعد الكينزي» وغيرها. وهي مقررات تم خلقها في المنهاج بعد تحديثه وتطويره على مدى سنوات بدءاً من عام 2002، وقد أصبح المنهاج رسمياً عام 2008.
وقد واكب الزميلان العزيزان ساندرا والدكتور أنطوان، التجربة منذ بدايتها. وهما مع الآخرين يتولون الآن تدريس هذه المقررات. ويتولون ببقائهم في مواقعهم الحفاظ على هذا المنهاج وعلى الجامعة، حتى تمر هذه العاصفة الهوجاء. وهي عاصفة إن لم نتصدّ لها، ستذهب ليس فقط بكليتنا وبالجامعة اللبنانية، بل بلبنان نفسه.

* كلمة ألبير داغر خلال ندوة حول كتابه «تيارات فكرية معاصرة من أجل التنمية العربية» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ـــ 2022) على هامش «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» الأخير.