تقول مانويلا ديكا، «أن تكوني فتاة أبيك، هي بمثابة درع دائم لبقية حياتك». في ظلّ نصب والدها أنطون سعادة، في ضهور الشوير بلدتها المتنية، بدت صفية سعادة على غلاف إصدارها الجديد «الحزب والعائلة» (2022) واثقة مطمئنة وقوية. الكتاب هو آخر إصدارات صفية وهو أشبه بمذكرات أو «بيوغرافي» عن حياتها، عن عائلتها ومعاناة العائلة وتضحياتها ودفعها ثمن قناعات إصلاحية ونهضوية للبلاد، هي ووالدها أنطون سعادة الفيلسوف ومؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» الذي قتله النظام السياسي وزبائنيّته.
مؤسس «الحزب السوري القومي الاجتماعي» بريشة خولة الطفيلي (2016)

يفتح الكتاب الباب على تسوية لمغالطات كثيرة سادت منذ استشهاد والدها واستمرت بعد اغتياله، كما يتضمّن نقاشات للعديد من المفاهيم التي أسيء تفسيرها، ونقداً لكثير من النقاط التي بقيت تُردد ببغائياً بدون نقاش منذ عقود. يبدأ الكتاب بلقاء العائلتين، المير وسعادة (مجاعص) الشويرية، من خلال جوليات وأنطون في الاغتراب الأرجنتيني حيث تزوجا في مطلع أربعينيات القرن العشرين. هناك، ولدت صفية ونشأت في أجواء من المدنية الحديثة أي في بوينس أيرس، باريس أميركا اللاتينية آنذاك. صفية مدللة أبيها، التي شاءت ظروف عمل والدتها أن تلتصق هي أكثر بوالدها الذي يعمل بالصحافة والفكر في البيت، فتعلقت به أكثر واكتسبت منه رقي أساليبه التربوية وثقتها بنفسها التي منحها إياها بدون أن يميز بين ابنة أو ابن، دافعاً إياها دوماً للاعتماد على نفسها دون الآخرين، معلماً إياها العربية الفصحى لغةً للتخاطب.
عرفت صفية والدها نحو ست سنوات قبل أن يقرر مغادرة الأرجنتين إلى أرض الوطن مع عائلته، حيث ستعيش حياة مليئة بالتوتر والازدحام. تقول: «منذ وطأت قدماي مرفأ بيروت، وجدت حشداً كبيراً بانتظارنا، عدسات الكاميرات موجهة صوبي. كرهت ذلك أنا المتعلقة بخصوصياتي، اعتبرت ذلك اجتياحاً لطفولتي وقمعاً لحريتي الشخصية».
كان هذا ربما أسهل أشكال القمع الذي عاشته صفية، وقد بلغ ذروته في مراحل لاحقة من طفولتها وشبابها. نعرف أنّ سعادة عاد إلى الوطن عبر مطار بيروت في أيار (مايو) 1947 ودعا في خطابه الشهير القوميين الاجتماعيين إلى الجهاد من أجل لبنان أولاً. قال ذلك يومها معقّباً على نيل لبنان استقلاله عام 1943: «خرجتم من الزنازين إلى السجن الكبير». طبعاً هو قصد سجن «سايكس بيكو» الذي قسّم الأمة إلى كيانات حدّد حدودها الاحتلالان الإنكليزي والفرنسي. كما خاطب يومها القوميين داعياً إياهم إلى ساحة الجهاد لأنه اعتبر أن ما يُخطط لفلسطين أكثر بكثير مما يُعلن. وكانت مرحلة مذكرات التوقيف بحق والدها. هنا بدأت رحلة المعاناة بعدما أصبح منزلهم عرضة لاقتحامات القوى الأمنية التي تأتي لاعتقال سعادة.
لم يطل مكوث جوليا وبناتها في بيروت. غادرن إلى دمشق للقاء الوالد لفترة وجيزة. شاهدته نحو ساعة من الزمن، نظراً لانهماكه بحزبه ثم إلى صيدنايا، وإلى إقامة جبرية هناك. تروي صفية كيف تبلغت بنفسها خبر إعدام سعادة من جريدة يومية ملقاة على طاولة في دير صيدنايا.
الطفلة التي تقرأ العربية جيداً، رأت بالأحرف العريضة غلاف الصحيفة «إعدام أنطون سعادة» ولم تتجرأ على مشاركة الخبر مع أحد.
تقول صفية عن طفولتها، إنّه كلما كانت ترتفع حرارتها (نتيجة التهاب اللوزتين)، كانت ترى نفسها في كابوس حيث كانت تتناول جبلاً من الثلج بالملعقة. بعد إعدام سعادة، تحوّل كابوس الطفلة إلى جسد والدها الملقى على الأرض تنهشه الطيور الكواسر، وهي تشعر بذنب قاتل لأنّها لم تكن معه لمساعدته. لم يكن أحد قربه... ذهب إلى الموت وحيداً.
هذه الطفلة المتمردة الثائرة التي نشأت على يدي أبيها في المرحلة الأولى من طفولتها، واصلت تمردها، وهي تراقب واقع عائلتها بعد اغتيال والدها وفي كنف والدة مع بناتها. تراقب بصمت كيف تستباح خصوصية عائلتها وكيف كانت جوليا المير تستيقظ باكراً لتدير أمور بناتها الثلاث ثم تجهز نفسها لاستقبال رفقاء زوجها وأصدقاء الحزب والقيادة الحزبية.
تقول صفية إنّ تعرّف جوليا المير إلى حياة إيفا بيرون في الأرجنتين، ربما جعلها تحلم بأن تناضل وتتحمّل كل المرارات في حزبها ومن سياسيّي البلاد.
كبرت صفية في هذه الأجواء من الحنق والغضب الدائم من أجواء بيتها، وأيضاً من اغتيال والدها. ستّ سنوات وهي تغلي، لتصل الأمور بأمها إلى سجن المزة، سجينة قهر وظلم، وصفية وشقيقاتها شبه سجينات في بيروت التي انتقلن إليها من دمشق، مع خالتهن ديانا التي أصرت على التعاطي معهن دوماً بمقولتها «أريد أن أسلمكن لأمكن كما استلمتكن».
لكن صفية الشاهدة مراراً على الأحداث، ظلّت تفتش بنفسها عن حقيقة ما حصل، إلى جانب الكلام الذي كانت تسمعه على لسان والدتها عن خيانات تعرّض لها سعادة أدت إلى تسليمه وإعدامه. ما ترويه صفية، بعيد عن المرويات التي أُسمعت للقوميين لسنوات طويلة، وهو خطير لأنه ورد على ألسنة بعض من واكب تلك المرحلة عن لحظات سعادة الأخيرة وكان مع قيادة حزبه في منزل معروف صعب، وليس كما يروى من داخل قصر حسني الزعيم. وبدل أن تبادر القيادة بعدها إلى إبلاغ القوميين في سوريا ولبنان بما حصل، توارت وغادر البعض إلى الأردن.
ألا يصح بهؤلاء قول سعادة نفسه «إن كنتم جبناء أقصيتكم عني، وإن كنتم أقوياء سرت بكم إلى النصر»؟
صفية التي تكشف هذه الواقعة التي طُمست لسنوات، تبرّر سلوك هذه القيادة بالقول بأنهم كانوا في العشرين من العمر بدون خبرة وإدراك للمتغيرات الدولية والإقليمية التي تسمح لهم بتقدير خطورة الأمر.
شهود صفية على كلامها هذا كثر ومنهم أسرة الضابط مرافق حسني الزعيم، إبراهيم الحسيني، الدكتور صبري قباني، والشاعر عمر أبو ريشة، وابنة أخ الوزير فارس الخوري إلى جانب كلام قاله الأمينان عصام المحايري وعبدالله محسن.
كتاب صفية سعادة سيكون مثار جدل ونقاش من دون شكّ


الأمر الآخر الذي شاءت صفية نقضه في هذا الكتاب استناداً إلى قربها من رئيس الحزب الأول جورج عبد المسيح، هو طبيعة هذا الشخص الذي طبع الحزب بسلوكه. تقول عنه: «حكم الحزب على الطريقة الستالينية والقبلية معاً، حكم مطلق وأيديولوجية شمولية تجرف الخاص وتدمجه بالعام» متهمة إياه بـ «إلقاء عائلة أنطون سعادة وسحقها باسم المؤسسة الحزبية واستعمال العنف لإسكات الأصوات المناوئة». تضع صفية نقاطها السوداء على تلك المرحلة وعلى مدى فهم عبد المسيح لعناوين سعادة التي شاءها لحزبه مثل الديموقراطية ومفهومه للزعامة التي تتناقض كلياً مع مفهوم الزعامة التقليدية والنمط العشائري والطائفي السائد آنذاك وكذلك فهمهم لأساليب التربية التي عاشتها مع أبيها.
أخطر الاتهامات، اعتبارها أن عبد المسيح حوّل الحزب من حزب تقدمي تغييري ثوري إلى أشبه بطائفة مغلقة، منعت الحفلات الاجتماعية من أعياد ومناسبات، ولا شيء عدا المناسبات الحزبية.
لقد أدانت صفية ما اعتبرته غياباً للإنسان الجديد وبقاء الإرث الطائفي والبطريركي. اعتبرت أنّ الضرر الذي ألحقته رئاسة عبد المسيح بالحزب، كان هائلاً وعميقاً ومستداماً. تنتقد صفية أيضاً السياق السياسي الذي أخذت القيادات الحزب إليه.
تختتم صفية كتابها مصرّة على أهمية عقيدة سعادة التي ما زالت معاصرة ومواكبة لزماننا، مؤكدة أن كل فكر يريد الحياة يجب أن ينمو ويتطور مع تقدم المجتمع والعالم. أهمية الكتاب أنه من ابنة سعادة، كُتب بلغة ومنهج نقدي وبجرأة كبيرة، كتاب «الحزب والعائلة» غني بالأحداث والقراءات وجدير بالاهتمام ولا شك سيكون مثار جدل ونقاش.