لا تكاد تمرّ حادثة، مفرحة كانت أم بشعة، إلّا ويستغلّها الإعلام المهيمن في لبنان من أجل تذكير الجميع بأجنداته البعيدة عن بناء الدولة والديمقراطية اللذيْن يتشدّق بهما ليلَ نهارَ. تغطية ما حدث في الأشرفية السبت الفائت لم تكن استثناءً. مساء ذاك اليوم، خرجت مجموعات شبّانية على الدراجات النارية احتفالاً بفوز المنتخب المغربي على نظيره البرتغالي ضمن بطولة كأس العالم لكرة القدم، فانطلقت من منطقة المزرعة في بيروت حاملةً أعلام المغرب وفلسطين، ومرّت بمنطقة السوديكو حتى وصلت إلى ساحة ساسين حيث علّقت شجرة ميلادية. أمر استفزّ بعض الأفراد من قاطني الأشرفية، ليس بسبب مشهد الدراجات بحدّ ذاته وما ينتج عنه من فوضى وإزعاج، بل بسبب العلم الفلسطيني وما اعتبروه «شعارات دينية» (يقصدون عبارة التكبير!) أطلقها راكبو الدرّاجات، فوقع تلاسن تطوّر إلى ركل وتضارب قبل أن يتدخّل الجيش والقوى الأمنية لفضّ الإشكال.لم تكن غريبة الردود على مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصاً من سياسيّين ونوّاب من وارثي الفاشية وأيتام «14 آذار» ودعاة الفيدرالية والتقسيم، إذ ليس متوقَّعاً من هؤلاء غير بثّ الخطاب المناطقي المذهبي الشعبوي إرضاءً لناخبيهم ورعاتهم الخارجيّين. ويمكن القول بأنّ تعاطي الإعلام المهيمن مع الحادثة، لم يكن غريباً أيضاً، غير أنّ المنحى الذي أخذه هذا الإعلام ، وصل في بعض الأحيان إلى «الوقاحة». عندما نقول «الإعلام المهيمن»، نقصد بشكل أساسيّ القنوات التلفزيونية الثلاث التي ادّعت منذ تشرين الأوّل 2019 أنّها لا تفرّق بين اللبنانيّين وأنّهم «موحّدون». هذه القنوات تعاطت مع الحادثة تماماً كما تصرّف السياسيّون الآنفون.
رغم تقاريرها «المبتذلة» عن القضية الفلسطينية، لم تخجل «الجديد» من الاستماع إلى رأي «قواتيين» دون غيرهم، فيما أصول المهنة تقتضي الاستماع إلى كلا الطرفَين من أجل التوصّل إلى سردية موضوعية. هكذا، استضافت القناة الوزير السابق غسان حاصباني لتبرير ما حصل بأنّه «حماية» للمنطقة وردٌّ على الاستفزاز وإطلاقِ شعارات دينية وسياسية و«رفعِ أعلام دوَل ما خصّها بالمونديال». يبدو أنّ حاصباني والقناة التي استضافته، تناسيا بأنّ علم فلسطين كان من أكثر الأعلام حضوراً في «المونديال»، وأنّه يرمز إلى كلّ العالم العربي، وأنّ القضية الفلسطينية ليست قضية دينية، بل قضية إنسانية أثّرت بالمسيحيّين الذين يدّعي الدفاع عنهم بقدر ما أثّرت بغيرهم، وأنّ الاحتلال يعتدي على رجال الدين والمصلّين في كنيسة القيامة، حتى إنّ عبارة «الله أكبر» تجوز لكلّ الديانات السماوية، وأنّ «التعايش» الذي يريده، يعني تقبّل جميع الأديان، وهذا يعني تقبّل الزينة الميلادية وعبارة التكبير على حدّ سواء. المقابلة مع حاصباني لم تنتهِ هنا، بل تتالت الأسئلة الموجّهة إلى حاصباني حول جماعة «جنود الربّ» (الذين افتعلوا المشكل في ساسين) وعلاقة «القوات» بها، فبرّر بأنّهم من سكّان المنطقة، ونفى علاقة حزبه ملمّحاً إلى «مموّلين» لم يسمّهم، لكنّه دعا المراسِلة للاستقصاء عنهم (يقصد أنطون الصحناوي).
أمّا «المؤسسة اللبنانية للإرسال»، فقاربت الموضوع من زاوية مختلفة ولو أنّها وصلت إلى الاستنتاج نفسه كما «الجديد»، إذ حاولت إثبات أنّ أفراد مجموعة الدراجات، ليسوا من بيروت (بعكس ما تمّ تداوله بأنّهم من مناطق الطريق الجديدة والمزرعة والمصيطبة وما يجاورها) بل من خارجها، واتّجهت حتى نحو نزع الجنسية اللبنانية عنهم، مدّعيةً أنّ جميعهم من جنسيات فلسطينية وسورية، ومدعّمةً معلوماتها بمقابلات مع بعض سكّان المنطقة حيث وقع الإشكال. وانتهت القناة بقول ما معناه بأنّه حان الوقت لبناء دولة لا طائفية يحقّ لأيّ كان التجوّل على كلّ أراضيها، لكنّها عادت واستدركت أنّه يجب احترام الأديان وعدم «الاستفزاز»، في محاولة منها لاسترضاء جمهورها كما عدم الذهاب بعيداً في «التمايز» عن شقيقتَيها.
استضافت «الجديد» الوزير السابق غسان حاصباني لتبرير ما حصل بأنّه «حماية» للمنطقة وردٌّ على الاستفزاز


«القبعة المرفوعة» كانت لـ«تلفزيون المرّ» الذي ادّعى أنّ ثمّة من يريد تحويل كرة القدم إلى السياسة من أجل أهداف «مشبوهة». لكنّ القناة صاحبة الدعوة الدائمة إلى «عودة لبنان إلى الحضن العربي»، أثبتت أنّ دعوتها هذه لا علاقة لها سوى بالمال والطمع، فذهبت بعيداً إلى حدّ بثّها أكاذيبَ مثل أنّ الأعلام السورية رُفعت (رغم أنّها لا تظهر في أيّ من الفيديوهات المعروضة) إلى جانب علم فلسطين، وأنّ شعارات لجمال عبد الناصر و«العروبة» أُطلقت، في محاولة منها لإثارة غضب جمهورها. لا تكتفي القناة بهذه المعلومات غير الدقيقة التي لا تهدف إلا لإثارة الفتنة، بل نقلت على لسان أحد السكان بأنّ المحتفلين «شتموا المسيح والسيدة العذراء، ومش أوّل مرّة بتصير»، في استغباء للناس واستخفاف بعقولهم. أكملت mtv بخّ السموم الطائفية بقولها إنّ مجموعة الدراجات «أتت من الطريق الجديدة وغالبيّتها من الطائفة السنية»، لكنّ ذلك لا يعني أنّها لم تحشر «حزب الله» في تقريرها بطريقة أو بأخرى، فحرصت على نقل تغريدة منير بركات التي قال فيها إنّ الأمن الذاتي «سيستفيق في ظلّ غياب الدولة الذي كرّسه حزب الله سرطان لبنان». هكذا، أعلن «تلفزيون المرّ» ركوبه موجة النزعة الفاشية التي تعيد صعودها في العالم حالياً.
ما حدث في «ساسين» بالتأكيد لم يكن مقبولاً، خصوصاً في بلد مثل لبنان. لكنّ العتب على الوسائل الإعلامية (المهيمنة) التي «تصبّ الزيت على النار» بدلاً من التزامها بدورها الوطني من حيث الموضوعية والدفاع عن الوحدة وتقريب وجهات النظر، أو على الأقلّ عدم بثّ الكراهية والحقن المذهبي كما تفعل الآن.