منذ الدقيقة الأولى لفيلم «أتينا»، كان واضحاً أنّ المخرج الفرنسي رومان غافراس ليس لديه وقت للعبث. غافراس عرف كيف يصدم، ويهين، ويخلق تأثير ضربة المطرقة. المشهد الأول من الفيلم، الذي يستمر عشر دقائق، يحبس الأنفاس حرفياً. في لقطة واحدة طويلة، نجد أنفسنا أمام معجزة حركية للكاميرا: كوريغرافيا جسدية بصرية وصوتية تأخذنا حرفياً داخل متاهة الحرب، وليمة للعين والأذن. لكن بعد مرور دقائق على الفيلم، يتلاشى ألم الضربة ويبدأ العبث، وتبقى علامة الضربة التي لا نعيرها اهتماماً.

خلال مؤتمر صحافي في مركز الشرطة، يبدأ كل شيء. يلقي أحد الشباب الغاضبين مولوتوفاً وتبدأ الحرب. يدخل الشباب بكل ما أوتيهم من قوة داخل المركز، يكسرون كل شيء، ينهبون سيارة وأسلحة ويحملون غنائمهم إلى منازلهم وهم يلوحون بعلم الألوان الثلاثة الفرنسي، ويتحصنون في ضاحيتهم الصغيرة «أتينا» التي يسكنها العرب بمعظمها. إنهم لا ينوون قتل أي شخص أو إسقاط النظام، بل يطالبون بالعدالة لـ «إيدير» الطفل العربي البالغ ثلاثة عشر عاماً الذي قتل على ما يبدو بسبب عنف الشرطة. خلال المؤتمر، كان الجندي الفرنسي عبد (دالي بن صلاح) يحاول تهدئة الأمور وإعطاء ضمانات بأن التحقيق سيصل إلى قتلة شقيقه، لكن الأخ الأصغر كريم (سامي سليمان) لا يأبه لهذه التفاهات. يستولي عليه الغضب ويصرّ على أنّه يريد الجناة اليوم، وهو من بدأ بإلقاء المولوتوف خلال كلمة أخيه. من جهة أخرى، ليس لدى شقيقهما الأكبر مختار (أوسياني امبريك)، مصلحة في أي منهما. بدلاً من ذلك ينصب تركيزه على مواصلة أنشطته المشبوهة.
الفيلم الذي يستعير عنوانه من آلهة الحرب الإغريقية، يحاكي مأساة يونانية من خلال الأشقّاء الثلاثة: عبد الشرطي، كريم المتمرد، ومختار المرتبط بالإتجار والمافيا. بعد الدقائق العشر الأولى، يستمر التصعيد ومعه الإثارة السمعية البصرية، بخاصة مع وصول الشرطة إلى أتينا ومحاصرتها بقصد قمع الشباب الذين لا يتخلّون عن موقفهم العدواني من أجل العدالة. الحد الأدنى من الحبكة موجود، مع الشخصيات والغضب والصراعات الأخلاقية بين الأخوة والكائنات التي تتألم وتتمزق والصراع الطبقي والعنصري. ويعزز غافراس ذلك من خلال الركيزة التراجيدية الكلاسيكية، بخاصة مع الموسيقى. لتنظيم الفيلم والحبس والغيتو وحصار الشرطة والعنف، يعرف غافراس كيف ينجح في ذلك، تقريباً كمخرج أفلام حركة، إذا اعتبرنا أن الفيلم من هذا النوع، لأنّ هناك العديد من اللحظات الناجحة للغاية كفيلم إثارة وحرب. ولكن ما يلفت الانتباه في البداية، يتلاشى مع مرور الدقائق ويصبح صعباً قراءة ما يريد غافراس قوله أو البحث عن المعنى الذي يقترحه. يسعى الفيلم ليكون أحد الأفلام الفرنسية التي جعلت من الضواحي المتعددة الثقافات، نوعاً من ساحة معركة مجازية وحرفية للمناقشات المعاصرة حول إرث ما بعد الاستعمار، أو الصراع الطبقي أو العنصري وعزل الغيتو وقمعه كتنفيس دراماتيكي لواقع الصراع. رأينا هذا النوع من الأفلام الفرنسية كثيراً، لا يمكننا أن ننسى تحفة ماتيو كازوفيتس «الكراهية» (1995)، وصولاً إلى فيلم «البؤساء» (2019) للادج لي، الذي شارك مع غافراس في كتابة «أتينا».


الفراغ الثقافي ومحدودية التفكير النقدي وانحصار النظرة بالمشكلات الاجتماعية والعنصرية في فرنسا، التي بدأها لادج لي في «البؤساء» يكملها هنا مع غافراس. مشاهدة فيلم «أتينا» يثير الرفض بسبب فراغه الثقافي والسياسي، لكن قبل أي شيء يدعونا إلى التفكير في انخفاض المستوى التحليلي للسينما الاجتماعية الفرنسية والأوروبية. رومان غافراس هو ابن كوستا غافراس، أحد المخرجين المركزيين في تقاليد السينما السياسية الأوروبية الذي سعى دائماً إلى تفكيك الهياكل الاجتماعية وشرحها وتقديمها لتكون قراءة تحليلية للبنية الثقافية والسياسية في البلاد، ومثله برنار تافيرنييه المهتم بهذه المعارك. نظرة هؤلاء المخرجين المخضرمين على واقع بلادهم، مفقودة تماماً عند المخرجين الجدد. ليس عليك أن تكون ملماً بالمشكلات الاجتماعية في فرنسا، لتتأكد أنّ «أتينا» المتفجّر النابض بالحياة، يفتقد تماماً إلى الجوهر، بخاصة في تفاصيله، عندما يتم تقديم رجال الشرطة على أنهم بشر، بينما أصحاب البشرة الداكنة لا يضمن منهم اللطف دائماً. يعاقبنا غافراس ولادج لي بأخلاقيات غير مبررة ومحرجة، ويلقيان اللوم في جميع المشكلات الاجتماعية للغيتو الفرنسي على الجماعات الغاضبة الموجودة في الداخل والعنصرية البلهاء في الخارج.
يتعامل الفيلم مع المشكلة كما تتعامل السياسة الفرنسية مع الضواحي، بأنها مناطق محظورة، يُنصح بعدم التدخل فيها، مناطق ينظر إليها بعنصرية، ما يزيد مشكلات الاندماج الاجتماعي. وهذا واضح من خلال البث التلفزيوني في خلفية بعض المشاهد التي ينظر فيها السياسيون إلى سكان أتينا كما لو أنّهم كائنات غير بشرية. واضح تماماً كيف أن غافراس لا يعرف تماماً مشكلات بلاده. بطريقة سطحية للغاية، يقدم أقدم المشكلات الاجتماعية في فرنسا. بالنسبة للفيلم، رجال الشرطة ليسوا عنصريين، العرب همجيون وغرائزهم العنيفة تستولي عليهم في النهاية، والإرهابيون لا يفقهون شيئاً سوى تفجير الأبنية، والنتيجة ضحايا هنا وهناك. لم يحاول غافراس الغوص في هذه المشكلات، ألقى كل شيء بوجهنا بسذاجة وسطحية. وفي النهاية ألمح إلى أنّ اليمين المتطرف أو النازيين الجدد هم من يشعلون الشارع. لا قراءة اجتماعية ولا سياسية ولا ديموغرافية أو حتى نفسية للشخصيات. منذ البداية نعرف كيف سينتهي الفيلم، ومَن من أفراد الشرطة سوف يبقى كبش الفداء ومن سوف يموت. حتى إنّ بعض مشاهد الفيلم تبدو سخيفة أمام هول ما يحدث بصرياً.
يقدّم الفيلم العرب كهمَج تسيطر عليهم غرائزهم العنيفة


نعرف غافراس من خلال الكليبات الغنائية التي هي من إخراجه، وأسلوبه فيها واضح جداً في الفيلم. فالفيلم بمثابة كليب طويل عنيف لا ينتهي. لا يريد غافراس الإضاءة على المشكلات بل الأهم هو إشعال البارود والباقي مجرد وسيلة لتحقيق الغاية. صورة الفيلم قوية، مباشرة مصممة كفيلم إثارة حيث يوجد ضجة في كل زاوية. وهذا مثير ومحبط، لأنّ الفيلم يستمر في فقدان اتجاهه. يلقينا فقط في منتصف الحدث لتجرفنا موجة العنف. بالإضافة إلى ذلك، يقدم غافراس المعلومات المهمة للقصة من خلال الراديو والتلفزيون خارج الإطار، كأنه يقول لنا بوضوح إنّه لا يهتم بالقصة، بل بمشاهد الحركة والباقي غير مهم. في مرحلة معينة من الفيلم، استحال على غافراس ترتيب كل شيء، ورسم صورة واضحة لشخصياته التي تم إهمالها. حتى في فترات الراحة القليلة، تظهر عيوب الفيلم السردية بوضوح. من المؤسف أنّ هذا الموضوع المعقد قدمه غافراس معتمداً على غرائزه التجارية. بعض لقطات الفيلم وشخصياته تبدو كإعلانات لماركات أزياء فاخرة وملابس رياضية يرتديها الأتينيون الذين يهاجمون الشرطة بألعاب نارية، ما جعل الفيلم مصطنعاً ومسرحياً. هناك نقص كبير في الدقة والمعرفة في «أتينا». مع قصة أكثر صقلاً وشخصيات أكثر إثارة للاهتمام، كان ممكناً أن يكون الفيلم حدثاً حقيقياً، أو على الأقل مقدمة لمناقشة أوسع للقضايا الاجتماعية التي يتناولها.

* Athena على نتفليكس