رحل صاحب «الموجة الصاخبة» وأحد أربعة كتبوا ووقعوا «بيان شعر 1969» في بغداد. رحل سامي مهدي (1940 ــــــ 2022) ، المثقف البعثي الذي صمد في «الداخل» العراقي لأكثر من أربعة عقود، كان فيها مثقف السلطة الذي ينظر لها، مدافعاً، وحارساً، فيما قرر أبرز مجايليه ورفاقه في البيان الهروب من مذابح البلاد الأيديولوجيّة: فوزي كريم وفاضل العزاوي، وبالطبع غيرهما كثير. كان سامي مهدي أحد أبرز الأصوات العالية في مقهى حسن عجمي أيام الجمع البغدادية. وكنت أدخل المقهى، مثل فأر مذعور، وأنا أراه مشتبكاً في نقاشات حادة مع أسماء لا تنسى مثل: محمد مبارك، مالك المطلبي، موسى كريدي، خالد علي مصطفى، وعبد الجبار داود البصري وغيرهم… وكنت أتساءل في ذاتي: هل يستمد الشاعر صوته العالي من ثقافته العالية من سلطته الباطشة؟ نحن نتحدث عن بغداد الثمانينيات، حيث الحرب، التخوين والعمالة، السلطة والعنف، الخوف والرغبة.وبالرغم من تمسكه بالقصيدة الحديثة في وجه صعود مفهوم الدوافع لقصيدة العمود في الثمانينيات، ما حصّن قصيدته من الابتذال، فإن رئاسته التحرير لأبرز الصحف العراقية لسنوات طويلة تحت حكم النظام الشمولي، قد دفعت سامي مهدي ليكون الواجهة الشرسة لذلك النظام حتى لو اضطر إلى مهاجمة أقرب الشعراء إليه إرضاءً للحاكم الذي يراهم مجموعة من المعارضين المجرمين. ولسامي، في هذا الخصوص نصوص مشهورة في مهاجمة شعراء كبار، ربما يكون سعدي يوسف أبرزهم. مع ذلك، فإن شعره، الذي دُرّس كثيراً جداً داخل العراق لأسباب موضوعية وأخرى مشبوهة، لجهة علاقته بمركز القرار، أقلها الثقافي، سيظل ميداناً خصباً للقراءة، بل إنه على ما أعتقد، كل ما سيبقى منه، بالرغم من قسوة ذلك أخلاقياً.
ولسامي مهدي تنظيرات مرموقة في شعر الحداثة، تلك التنظيرات التي قرأتها بجد، بخاصة كتابه «حداثة النمط». شخصياً تعاملت مع الشاعر سامي مهدي مراراً، خاصة إبّان قيادته لجريدة حزب البعث الرسمية «الثورة»، أو جريدة «الجمهورية». كنت أرسل نصوصي الشعرية للصفحة الثقافية وغالباً ما كانت تنشر. أدرك دور المحررين الثقافيين في ذلك، وأدرك أيضاً أن سامي مهدي كان يعد نفسه المحرر الرئيس للصفحة الثقافية. عليّ الاستدراك هنا، وبلا نفخ فارغ للذات أو ادّعاء ما ليس لي، بأن ما كنت أنشره في جريدة «الثورة» أو «الجمهورية» وبرضا من رئيس تحريرها، لم يكن قطعاً يمتّ بصلة لشعر المدائح الرائج آنذاك، بل العكس هو الصحيح. وكثيراً ما كان الأصدقاء الذين يحررون الصفحة الثقافية، يطلعونني على تهميشات رئيس التحرير، الشاعر الستيني، على نصوصي فأجدها مثيرة للاحترام. لقد نشرت أغلب نصوص مجموعتي الأولى والثانية في تلك الصحف. لم يصدق كثيرون ذلك عندما طالعوا تلك النصوص منشورة لاحقاً بين دفّتَي كتاب. أما أبرز نص فعلاً نُشر حينها في جريدة «الثورة» تحديداً، فكان «صعاليك بغداد». ولعل الصديق الشاعر جواد الحطاب، الذي كان محرر الصفحة الثقافية حينها، يتذكر كيف مرّ هذا النص بدعم منه في الجريدة، وما أثاره حينها من ردود فعل. الأمر ذاته حصل مع نصوص أخرى نشرها الشاعر عبد الزهرة زكي لي في جريدة «الجمهورية».
بعد عام 2003، تعاملت مع الشاعر سامي مهدي هذه المرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، الفايسبوك تحديداً، في الأعوام 2010-2012. قبل أن أغلق حسابي الشخصي نهائياً في الفايسبوك. كان مهدي يعلّق بحيوية على ما كنت أنشر من مقالات، ونصوص، وحتى آراء عابرة. لم أجد في تعليقاته أي سوء فهم، أو تحريض، أو كراهية…. بل على الدوام كانت آراؤه جدلية وفكرية. وبالرغم من سيادة ثقافة قطيعيّة في الفايسبوك ترى في سامي مهدي شرّاً محضاً، فقد كنت أحرص على قراءة رأيه ومناقشته بود.
إن تجربة سامي مهدي الشعرية والحياتية لجديرة بالبحث والتنقيب، ولعل ما ستثيره من أسئلة صعبة من قبيل: المثقف والأخلاق، الشاعر والديكتاتور، الفن والمضمون… هي الأسئلة التي كثيراً ما نحتاجها في مراجعة المشهد الثقافي العراقي إجمالاً، والتجربة الشخصية للشاعر نفسه.
أكتب هذا شهادة للتاريخ بحق رجل اختلفنا وسنختلف حوله، مع أنني أدرك، ربما، بأنني لست مؤهلاً تماماً للخوض في تفاصيل أعمق حول تجربته بسبب فارق السن والتجربة. مع ذلك أجدني ملزماً، من نفسي ربما، بذلك .

* شاعر عراقي