خسارة أخرى، ألقت بثقلها، أول من أمس، على المحترف السوري بغياب أحد معلّميه الكبار، إذ لطالما كان إلياس زيّات (1935ــــ 2022) أباً روحياً لأجيال من التشكيليّين السوريين الذين استمدوا من خبرته الطويلة في العمارة اللونية مخزوناً حضارياً لا ينضب، هو الذي جمع بين تصاوير مريم المجدلية، ومحي الدين بن عربي، وجبران خليل جبران ما يشبه قدّاساً احتفالياً فوق قماشة روحية واحدة. رحلة امتدت من صوفيا وبودابست والقاهرة إلى دمشق في كيمياء ألوان تنطوي على ثراء معرفي في إعادة الألق إلى الأيقونة الشرقية وترميمها بإشراقات خاصة، مؤكداً على الهوية المحليّة في المقام الأول والأخير.
كان إلياس زيّات أباً روحياً لأجيال من التشكيليين السوريين

يحفر إلياس زيّات عميقاً في الجذور المحليّة السورية بتعبيريّة طليقة تستمدّ قوتها من ذلك المزج الخلّاق بين المقدّس والأسطوري. الأيقونة المحلية التي اشتغل عليها طويلاً، حملت بصمته الشخصيّة بالإضافة إلى خصائص تجربة فريدة في تكثيف الرموز والولع في استثمار الأبعاد الميثولوجية للشرق، وتعابير التصاوير الشعبية في خطوطه وصياغاته اللونية المبتكرة. طبقات سردية متراكمة تستحضر وجوه القديسين ومعارج الروحانية الصوفية في فضاء لوني واحد، وصولاً إلى حواره البصري مع «نبي» جبران خليل جبران، في أعماله الأخيرة، إلى تخطيطاته بالأبيض والأسود. ذلك أن الطهرانية واللامرئيات تتحكم في ارتجالاته الحلمية ونزقه التعبيري، ما جعل تجربته إحدى العلامات الأساسية في صوغ تاريخ الفن السوري، إذ يردم المسافة بين الموروث القديم، والقيم الفنية المحلية المعاصرة ليختزل عن دراية وعمق ومعرفة، المراحل المتراكمة لفنون المنطقة من العصر الروماني مروراً بالآشوري والبابلي والسرياني، وصولاً إلى الفن الإسلامي الذي صهر كل هذه الاتجاهات في شخصية واحدة، لا تخضع للفولكلورية بقدر تطلعها إلى جماليات مغايرة.

«معلولا» (زينب على كانفاس ــــ 75 × 50.5 سنتم ــــ 1966)

هكذا التفت أولاً إلى المدينة المصلوبة، وخصوصية الأيقونة الشرقية، إلى جماليات مدينة معلولا، مروراً بالميثولوجيا، وفن العاري، إلى محاورة كتابات جبران خليل في كتابه «النبي»، وشذرات من أعماله الأخرى ببُعديها الفلسفي والكوني، من دون أن يتوقّف عن البحث واختبار مناخات مختلفة في مغامرة لونية عابرة للأجيال، بقصد تأصيل حداثة عربية اعتماداً على جمالية الخط العربي والفنون النحتية المحليّة، وخصوصاً النحت التدمري الذي تمثّله عن كثب، إلى جانب الدراسات المعمّقة عن تاريخ الفن. يقول في هذا السياق: «أي تجربة لا تستمدّ نسغها وروحها من الهواء الأول محكوم عليها بالفشل، ولا يكفي أن تلقى تجربة ما، مديحاً أوروبياً، لأنها تستعير مفرداتها من محترف آخر كي ننظر إليها بتبجيل أو دهشة». وتالياً، فإن توليفاته التصويرية الأصيلة، رغم نخبويّتها الثقافية، لا تمت بصلة إلى دراسته الكلاسيكية، ولا إلى الوصفات التعبيرية الجاهزة، إنما من روح المكان بطبقاته البصرية المتعدّدة، سواءً الأيقونية منها، أم ذات النبرة الشعبية، ممسرحاً إياها بوصفها سرديات مشهدية لطالما اختزنها في ذاكرته المشبعة باللون، منذ أن تعرّف على ميشيل كرشة أحد رواد التشكيل السوري في خمسينيات القرن المنصرم، الذي علّمه الرسم، قبل أن يوفد في بعثة إلى صوفيا، ليتشرّب هذه المرّة عن كثب فنون عصر النهضة ومقترحات فنون الحداثة الأوروبية المعاصرة. سيضيف إلى هذا المخزون الثري لاحقاً، خصائص الفن المصري العريق. كل هذه المعطيات وضعت تجربته في مقامٍ خاص داخل المحترف السوري الذي كان يضجّ آنذاك بأسئلة جوهرية على أيدي مجايليه مثل فاتح المدرّس ومحمود حمّاد، ونذير نبعة، أبرزها، كما يقول «لماذا لا نتبنى فنوننا القديمة، ومن خلالها نقوم بمعاصرة عربية سورية، فاكتشفنا أنّه لدينا شيئاً اسمه الخط العربي، ولدينا رسماً معبّراً عن أشخاص رُسم في الفترة الأموية على جدار القصور، وهو رسم مدهش؟».
من هنا نشأ تيّار تشكيلي متعدّد الأطياف والاتجاهات، فكان على تجربة إلياس زيّات أن تمرّ بأكثر من منعطف. هكذا بدأ واقعياً صرفاً، قبل أن يلجأ إلى التعبيرية، وفي حقبةٍ أخرى بدا تجريدياً، لينتهي به المطاف إلى الملحمية كمحصلة غنيّة لميراثه الشرقي ببعده الأسطوري من جهة، وثراء الأيقونة الشرقية، من جهةٍ ثانية. وبمعنى آخر، زاوج ما بين طهرانية مريم المجدلية، وشطح ابن عربي، وهذا ما منح أعماله، في مختلف محطاتها، دمغة شخصية مرتبطة على نحوٍ صميمي بمحيطها الدنيوي المعاش. كائنات بشرية معذّبة، وقديسون أرهقتهم الآلام، ومناخات روحية تغلّف الفضاء الدرامي للوحة، وإذا بشخوصه يحلّقون في مناخ معراجي من دون أجنحة «ولكننا نحس بعلاقتهم الطهرانية مع حواريي الأيقونة»، بالإضافة إلى رهافة في الخطوط والتكوينات، وتجانس الأشكال في خصوبتها اللونية، وتعبيريتها المحليّة، وإخلاصها العميق لأسلوبية هذا التشكيلي في بعديها التراكمي والفكري، من دون أن تقع تجاربه في النمطية أو الأسلبة، نظراً إلى تحولاته المستمرة، وتأملاته الروحية، وجرأته في تحطيم المنظور بغبطة لونية لافتة، تتجسّد في معالجاته للوجوه في توقها الأسطوري، أو روحها المستمدة من أشكال التماثيل في مدافن الفن التدمري، أو خصائص التصاوير الشعبية المحليّة، ببعديها الوجداني والوجودي، وصولاً إلى الوجد الصوفي الشطحي والنوراني.
حفر عميقاً في الجذور المحليّة السورية بتعبيريّة طليقة تستمدّ قوتها من المزج بين المقدّس والأسطوري

أينما توقفنا في استعادة مراحل عمله وتحولاته، سوف تبزغ شفافية الضوء المشرقي وتخريمات المشربيات الدمشقية وظلال الزجاج المعشّق، ما يعزّز حضوره في المحترف السوري كصاحب طريقة ومذهب في «التعبيرية الصوفية»، محررّاً الأيقونة من قدسيتها وصرامتها، بانفتاحها على روحانيات المنطقة، والإرث البصري المشرقي، في ما يشبه النبوءة والبشارة والخلاص، مطوّراً التقنيات القديمة باستخدام مواد مختلفة ومزجها على سطحٍ واحد، من دون أن يلتزم مسلكاً محدّداً، يؤطر تجربته في تيارٍ واضح، فيتجاور الزيتي والأكريليك قبل أن يوشحهما بالمائي أو الباستيل، على خلفية مفتوحة على الارتجال. الطهرانية الشخصية لهذا المعلّم، تنعكس إذاً، في نسيجه اللوني، وتأملاته البصرية، وسحر الموسيقى الخفي في خطوطه وأساطيره وفلسفته المتفرّدة. هكذا رسم «طوفان نوح» ثم أبحر منفرداً وغاب.