«لا تُغضبوا الشعب فالأَحقادُ كامنةٌ/ حتَّى الجمادات فيها يكمنُ الغضبُ!»
في 27 أَيلول (سبتمبر) 1957، رحلَ «بُلبلُ المنابر»، الشاعر حليم دمُّوس، عن عُمرٍ ناهز السبعين عاماً! ما إن طلعَت شمسُ ذلك اليوم حتَّى غابَتْ شمسُ الشاعر، وصمتَتْ قيثارتُه، وناحَ قلمُه، وانتحَبَتْ قراطيسُه، وانكفأَ صوتُه الذي ملأَ دُنيا العَرب بأَناشيده الخالدة، ولبسَتِ المنابرُ أَثوابَ الحِداد حُزناً على فراقِه، وقطنَت اللوعةُ في قلوب مُحبِّيه... وحدَها عروسُ شِعره ومُلهمةُ قصيدِه كانت سعيدةً بارتحاله؛ فقد كان الحليم فتى أَحلامِها المُرجَّى العائد إلى أَفيائها العُلويَّة بعد غيابه الطويل عنها!


انقسمَتْ حياةُ حليم دمُّوس، ومعها أَدبُه وشِعرُه، إلى مرحلتَيْن، بفِعل تعرُّفه إلى الدكتور داهش، واعتناقِه مبادئه الروحيَّة الداعية إلى الإيمان الصحيح باللَّه وأَنبيائه، والتآخي الإنسانيّ والسلام العالميّ، ونبذ الحروب وكلِّ أَشكال التعصُّب. شكَّل 14 أَيار (مايو) 1942 التاريخ الفاصل بين تلك المرحلتَين. في ذلك اليوم، قام الشاعر بزيارة داهش، للمرَّة الأُولى، فأُتيحت له مشاهدة «بعض الخوارق التي كانت تحدث على يديه بهدف إثبات حقيقة وجود اللَّه ووجود الروح وخلودها والعالَم الثاني، وحقيقة وحدة الأَديان السماويَّة ووحدة الأُسرة البشريَّة». أَمرٌ أَحدثَ تبدُّلاً جذريّاً في حياة الشاعر أَشارَ إليه بالقول: «كنتُ مادِّيّاً محضاً فأَصبحتُ روحانيّاً محضاً». ولقد كان طبيعياً أَن ينعكسَ ذلك التبدُّل على نتاجه الأَدبي والشعري. فقد ارتقَتْ موضوعاته وأَهدافه واغتنَت بالقيَم الروحيَّة الرفيعة، وشفَّتْ معانيه وأَشرقَتْ بأَنوار اللَّه السرمديَّة، حتى بات لزاماً على الدارسين لحياته وأَدبه وشِعره أَن يُميِّزوا فيها بين مرحلتَين: المرحلة السابقة للداهشيَّة، والمرحلة التي أَعقبَتها.
هذا التبدُّل المفاجئ أَثار انتباه الأُدباء والشعراء من أَصدقاء حليم دمُّوس، وقد أَشار بعضُهم إليه في كتاباتهم. من هؤلاء الكاتب الفلسطينيّ الكبير، عجاج نوَيْهض، الذي عبَّر عن ذلك في مقالةٍ له بعنوان «حليم دمُّوس»، نشرَتها مجلَّة «الأَديب» اللبنانيَّة في الأول من آذار (مارس) 1978، قائلاً: «في سنة 1943، وأَنا أَتولَّى القسم العربي من «دار الإذاعة الفلسطينيَّة» في القدس، جاءَ حليم فلسطين زائراً، فدعوتُه لإلقاءِ مختاراتٍ من شعره من المذياع العربيّ، ففعل مسروراً، وتكلَّمنا مليّاً، ودخلَت الداهشيَّة في العُباب... وأَذكر جيِّداً أَنِّي لمَّا كنتُ أَجتمعُ به في القدس، عام 1944، كان روحيّاً مَحْضاً، ومُمارساتُه الروحيَّة كانت بواسطة الشِّعر... فعلينا أَن نُميِّز في إنتاج حليم، شعراً ونثراً، بين جميع إنتاجه حتَّى عام 1942، الخالي من الروحانيَّة الداهشيَّة، وإنتاجه بعد عام 1942 إلى آخر حياته، وهي مدَّة 16 سنة. وفي أُخريات حياته، استغرقَته الروحانيَّة الداهشيَّة المحض واستولت على تيَّارات تفكيره...».
رغم الرقيّ الروحي الذي طبعَ أَدبه وشِعره في المرحلة الثانية، فإنَّ روح حليم الطيِّبة ومحبَّتَه ووطنيَّته لم تغبْ قطُّ عنهما في المرحلة الأُولى؛ فقد فاضت قيثارته في أَثنائها بالشِّعر القوميّ والوطنيّ الجميل، وبقصائد عدَّة خصَّ بها اللغة العربيَّة. وقد أَشار البنداري طايل، الأُستاذ في جامعة الأَزهر، وصاحب كتاب «حليم دمُّوس شاعراً»، إلى «أَنَّ حليم شاعرٌ يَعرفُ قَدْرَ قومه العرب، ويُمجِّدُ لغتهم العربيَّة، ويرى بأَنَّها الرابطة الأَساسيَّة التي تستطيعُ أَن توحِّدَ الصفوف وتَجمعَ شَملَ الأُمَّة من جديد». وفي مقالةٍ له بعنوان «لُغةُ الضاد في شِعر حليم دمُّوس»، ذكر الكاتبُ العراقيّ الكبير محسن جمال الدين، أَنَّه «قلَّ أَن تَخلو روائعُه التي كان يَنظُمها ويُلقيها منَ الإشادة بفضل اللغة العربيَّة ومكانتِها بين اللغات الأُخرى، لأَنَّها الروحُ الخالدة في كيان الأُمَّة، والسلاحُ الماضي في وجه أَعدائها ومُفسِدي ذَوقِها الفنِّي. وهيَ الرمزُ الثابتُ لاستقلال الوطن العربيِّ وكرامته». كما أَشار في مقالته إلى أَنَّ القصائد التي تناولَ فيها الشاعر لُغة الضاد بلغت 48 قصيدةً ومقطوعة.
أَمَّا في المرحلة الثانية من حياة الشاعر، فقد تفتَّحَت بصيرتُه على آفاقٍ شاسعة من المعرفة الروحيَّة تجلَّت له من خلالها عظمةُ اللَّه والأَكوان التي أَبدعها، وعظمةُ أَنبيائه ووحدةُ رسالاتهم وأَهدافهم، وحقيقةُ العدالة الإلهية، و«أَسرارُ الحياة والموت والتقمُّص». فاضَت شاعريَّتُه، وتدفَّقَت شلاَّلاً من نُور، غنيَّةً بالمعاني الروحيَّة السامية. وقد باتَ يَنظُم الشِّعرَ بسرعةٍ تُماثلُ سرعتَه في كتابة النَّثر، من غير أَن يَنتقصَ ذلك من جَمال قصائدِه ورِفعَة الخيال والعاطفة فيها. وقد أَعرضَ عن المال، وزَهدَ بالأَمجاد، وأَصبحَ اللَّه غايةَ غاياته في الحياة، وإليه باتَ يَرفعُ أَجملَ أَناشيده، مُسبِّحاً بعظائمه، ومُعبِّراً عن حنينه الدائم للعيش في ظلاله، كما هي الحال في قصيدته «يا إلهي»:
«أَنـتَ في كلِّ مكـانٍ يا إلـهي/ بكَ شُغـلي لا بشَيطـانٍ ولاهي/ أَشقـيٌّ أَنـا في هـذي الدُّنـى/ أَم سَعيـدٌ بأَغـانيـهِ يُبـاهـي/ أَنـا لا هــذا ولا ذاكَ أَنــا/ نَسمـةٌ مـن عالَـمٍ لا مُتناهـي/ آهِ لو يَدري الورى كم كَفَـروا!/ آهِ لو عـادوا إلى (الإيـمانِ) آهِ!/ آهِ لـو يَدرونَ كـم تَحرُسُهُم/ مُقلةُ البـاري بعَطـفٍ وانتبـاهِ!/ يـا إلهـي، أَنتَ لي كلُّ الـمُنى/ أَنتَ كنزي أَنتَ عزِّي أَنتَ جاهي/ أَنـتَ نُوري يا إلـهي فاستَمعْ/ كلمـاتي وتقبَّـلْها فهـا هِـيْ/ أَنـا سيَّـالٌ أُناجـي وطَـناً/ ثـانياً فيه أَرى وجـهَ إلـهـي!». كان الحليم يصعِّدُ ابتهالاته الخشوعيَّة بين يدي اللّه، وكان ينظم القصائد في تمجيد الأَنبياء والرسل، مُذكِّراً فيها بحقيقة وحدة الأَديان السماويَّة، مثيل ما قاله في قصيدته «أَنَّاتُ سجين» التي كتبها وهو في «سجن الرمل»، رافعاً إيَّاها إلى روح داهش بعدما بلغه نبأُ مصرعه، عام 1947، قائلاً: «أُناجيكَ من سِجني وإنِّي لَمؤمنٌ/ بربِّي وأَنِّي سوف أَلقاكَ ثانيا/ فأَنتَ الذي أَلقيتَ في كلِّ مسمعٍ/ دروساً كنُور الشمس تَطوي الأَعاليا/ وعلَّمتَنا حُبَّ الأَنامِ كإخوةٍ/ لوحدة أَديانٍ تشدُّ التآخيا/ تعاليمُ موسى والمسيح وأَحمدٍ/ وقفتَ لديها هادياً ومُناديا».
وكان الشاعرُ يُعبِّرُ عن حزنه العميق إزاءَ العواصف العاتية التي تهبُّ على الأَديان، فتفكِّكُ أَواصر وحدتها، ويتساءَل في رباعيَّته الشعريَّة «السفائن الثلاث» عمَّا إذا كانت ستعودُ فتتعانقُ من جديد، وتتوحَّدُ كما في عهودها الأُولى، قائلاً: «أَرى في بحار الشرقِ والغربِ ثورةً/ وأَمواجُها العُظمى تَروحُ وتَغتدي/ وفي بحرةِ الأَديان هبَّت عواصفٌ/ ستَطرحُ أَهل الأَرض في كلِّ فَدْفَدِ/ فيا ربُّ قد تاهَت بليلٍ مراكبٌ/ وها هيَ لم تَغرقْ ولم تتوحَّدِ/ فهل تلتقي في شاطئ الحُبِّ والهُدى/ سفائنُ موسى والمسيحِ وأَحمدِ؟».
ولم يكن الشاعرُ يتوانى عن التذكير بأُخوَّة الإنسان للإنسان، كما في رباعيَّته «المحبَّة»: «أَقولُ لِمَن أَتى الأَرضا/ أَنا بالحقد لا أَرضى/ وأَنتَ أَخي بلا جدَلٍ/ فهل أُخفي لكَ البُغضا؟/ فلا تَطوِ القِلى، إنِّي/ أَرى حُبَّ الورى فَرْضا/ أَما قالَ المسيحُ لنا:/ أَحبُّوا بعضَكم بَعضا». وفي رأيه أَنَّ انتفاءَ التآخي الإنسانيّ هو مدعاةٌ للحروب المُدمِّرة بين الدول: «وإنْ لم تَكنْ بين الشعوبِ أُخوَّةٌ/ فسوف نرى الأَشلاءَ ملءَ الخنادقِ». بل إنَّه كان يرى في الأُخوَّة الإنسانيَّة مرقاةً لتحقيق وحدة الأَوطان، وإرساءِ قواعد العروبة السمحاء، ونبذ الفوارق الوطنيَّة والقوميَّة والإنسانيَّة، وهو ما تُفشي به بعض أَبياتٍ له: «ما مصرُ، ما النيلُ، ما السودانُ في نظري/ إلاَّ كلُبنانَ في شوقي وتَحناني/ و(للجزيرة) حُبٌّ وهو في كَبِدي/ كحُبِّ قومي وأَبنائي وإخواني/ هيَ (العروبةُ) نَهواها بوَحْدتِها/ فإنَّ وحدتَها مجدٌ لأَوطاني». ولشدَّ ما كان يهزُّ الشاعرُ الثائر بقصائده أَعصاب الطغاة في لبنان الذين اعتقلوه خمس مرَّات، مدَّة ثلاثمئة يومٍ ويوم، بالظُّلم والبهتان، كما أَورد في مذكِّراته، مُنذراً إيَّاهم بيومٍ أَسود ينتظرهم. ففي قصيدةٍ له بعنوان «شاعرٌ متمرِّد»، يُخاطبُ الحليمُ ابنته من قلب «سجن الرمل» في بيروت، قائلاً: «قرأُوا وقالوا: «شاعرٌ متمرِّدُ»/ صَدقوا، فشِعري غَضبةٌ تتجدَّدُ/ وإذا تمرَّدَ شاعرٌ فيراعُهُ/ يومَ الجهادِ على الرقابِ مُهنَّدُ/ حطَّمتُ أَقلامَ السلامِ لأَنَّني/ جرَّدتُ سَيفاً في الجوانحِ يُغمَدُ/ أَيُهانُ نابغةٌ ويُسجَنُ شاعرٌ/ وأَخو الجَهالةِ في البلادِ يُمجَّدُ/ ضاقَت بوجهي الأَرضُ وهي رحيبةٌ/ لَمَّا رأَيتُ المُصلحين تشرَّدوا/ وأَبُوكِ في سِجنِ الرمالِ مُقيَّداً/ لكنَّ فكرَ الحُرّ ليس يُقيَّدُ/ قُولي لِمَن طرحوا البريءَ مُكبَّلاً/ يومُ الجُناة كلَيْلِ سِجني أَسودُ/ إنْ يسأَلوا، يا سَلْوتي، عن والدٍ/ قُولي لهم: هو شاعرٌ مُتمرِّدُ». ولكَم صبَّ الشاعرُ جام غضبته على رئيس الجمهوريَّة بشاره الخوري وأُسرته وأَعوانه، محذِّراً إيَّاهم من حتميَّة ثورة الشعب عليهم، وهو ما قد تمَّ بالفعل. ففي 18 أَيلول 1952، ثار الشعبُ اللبنانيُّ عليهم، وأَنهى عهدهم، وأَفنى أُحدوثتهم. هكذا كان يرى الحليم نهاية الظُّلام المستبدِّين، سارقي الشعوب: «اللَّهُ أَكبرُ كيف الأَمرُ ينقلبُ/ ودولةُ الظُّلمِ في الظَّلماء تحتجبُ/ إرادةُ الشعب حُكمٌ لا مردَّ لهُ/ فأَنصفُوهُ ففي إنصافِهِ الأَرَبُ/ لا تُغضبُوا الشعبَ فالأَحقادُ كامنةٌ/ حتَّى الجماداتُ فيها يكمنُ الغضبُ/ لا تُلهبوا الشعبَ إنَّ النار عاصفةٌ/ والعُودُ ينفثُ ناراً ثمَّ يلتهبُ»
حليم دمُّوس اسمٌ حلَّ في قلبي، وصوتٌ لا تغيبُ أَصداؤه عن مسمعي، وصورةٌ محبَّبة ساكنَت خيالي سبعةً وخمسين عاماً من رحلة العمر. ويقيني أَنَّ عطر ذكراه لن يفارقَني ما دمتُ في الحياة، ولسوف يبقى رفيقي في الطريق إلى الأَبديَّة!

* كاتب لبنانيّ مقيم في كندا