عاد إلينا جورج ندره (مواليد 1959)، رسّام ما بعد الانطباعيّة، من طول غياب في هجرته الباريسية، ليرينا لوحاته الجديدة في غاليري 92 Downtown (ستاركو ـ بيروت). يبدو أنّ هجرته الطويلة لم تصرفه عن تغذية فنّه من مناظر لبنان الطبيعيّة المُرسِلة ضوءَها وألوانها إلى ذاكرته، متحوّلاً من الانطباع إلى التجريد، ومبتعداً عن أيّ رسوم تشخيصيّة، ومغلّباً اللون والعناصر الهندسيّة.

احتلّ ندره مساحة تجريبيّة متميّزة ضمن مجموعة التجريديّين اللبنانيّين المنتمين إلى جيل الحرب (ربما الأقرب إليه في هذا الجيل هنيبعل سروجي وبسّام جعيتاني وآخرون ممن حجّوا إلى محترف شفيق عبّود)، متأثراً بالتجريدية الغنائية الفرنسيّة وبعض أعلامها أمثال نيكولا دوستايل، وجاك نِلار وكلود ڤيالا. ورغم انتمائه إلى هذه المدرسة التشكيليّة، مضى ندره في معرضه البيروتيّ أبعد، متجاوزاً ماضيَه الغنائي والفرشاة الحرّة.
لوحات المعرض الذي اختُتم أخيراً، أنجزها ندره في مدن متفرّقة، وهي على الكتّان أو الورق، بتقنيات متنوّعة ومختلطة تُستغّل فيها الألوان بحيويّة ودقّة. شظايا غير عادية تبدو مثل نوافذ مشرعة على الواقع، تطلّ العين والمخيّلة من خلالها على ما خلف المشهد، مطلقةً العنان لخيال الزائر المتأمّل، فإمّا يختار حرّاً الاختراق أو يكتفي بظاهر اللوحة من دون شحنة عاطفية. يبني جورج ندره المادة ويفكّكها في آن، سواء على الورق أو على الكتّان. الضوء هاجسه الأوّل. ينتقل من مجموعة متماثلات إلى نقوش مختلفة. يستخدم أشكالاً معماريّة في عمليّة التوفيق بين الفراغ والامتلاء، مزيحاً الستائر السميكة أو الشفافة المرنة. وغالباً ما يجازف بتسمير النظر وسجنه. تقودنا الأشكال لديه في ممرّات بلا نهاية تشبه متتاليات الشريط السينمائي.
يجعل جورج ندره المادة شغله الشاغل. تتأرجح لوحاته بين الشعر والتراجيديا، من دون أن تكرّس ذاتها للقضايا الفكرية حصراً. يحسن التوفيق بين الأمزجة المتناقضة، الفرحة والحزينة، الآملة واليائسة. مادّة الكتّان تُستخدم أحياناً لإظهار «الفراغ» و«الامتلاء» في آن. قبل أي شيء، هناك الرسام الذي يقتفي أثر ذاكرته نحو ضوء داخلي يشعله بنفسه. يتجاوز الحدود، يشدّ انتباهنا إلى نظرة مختلفة. نصغي إلى لوحته.
يستخدم أشكالاً معماريّة في عمليّة التوفيق بين الفراغ والامتلاء


في 1983-1984، ألقى ضوءاً تعبيريّاً على مريض في مستشفى أمراض عصبيّة خلال الحرب. لاحقاً، تنقّل بين إنكلترا وإيطاليا وكندا وسويسرا، أضاف بنيات مفتوحة على الصورة تتنفّس لهباً حارقاً. ومنذ عام 1986، أضحت باريس محطّة أساسيّة لفنّه وحياته حيث تمازجت التأثيرات والذكريات الفردية والجماعية التي تراكم الصور والمحطّات مثل فيلم طريق (road movie) خاص بعالم التشكيل. متواليات من صور الحياة متكتّلة أصباغاً وشبكات ومعادن وخشباً وفحماً وورقاً. جزيئات حياة تطفو في السائل الأمنيوسيّ، جدرانها من آجرّ شفّاف يفتح على المعاني اللانهائية. كما يهتمّ بانعكاسات الزجاج الشبكيّ، المقعّر والمحدّب على نحو ما يظهر في تجهيز «ظلال لا تُدرك» (ombres insaisissables) المؤلف من 17 قطعة. يفصح ندره عن رغبته في إعادة الرسم إلى فكرة التصوير من دون المرور بها، بغية تناغم متناقضات، ذهاباً وإياباً بين النهائيّ/ غير المكتمل، الأفقي/العموديّ، الظهور/ الاختفاء، تعبيراً عن حقيقة قائمة على تطرّف في التوازن. يرضيه المشي فوق حبل مشدود، فوق خيط الذاكرة المتأرجح. عدم ثباته أمر إنسانيّ مؤثّر. والرسم ندبة غير قابلة للشفاء.