قبل ثلاث سنوات، أي في 17 تشرين الأول (أكتوبر) فيما كانت الحشود الغفيرة تملأ الشوارع وتطالب بتغيير الطبقة السياسية، ونبذ الطائفية، كان مشهد آخر يرتسم توازياً بتوجيه هذه التظاهرات الشعبية سياسياً والعمل على خندقتها في التصويب على أطراف دون أخرى. منذ ذاك الحين، اشتغلت ماكينة إعلامية هائلة، وأخرى ميدانية، لأبلسة كل من «حزب الله»، و«التيار الوطني الحر»، وحصر التصويب عليهما، وتحميلهما عبء ما وصلت إليه البلاد حتى بعد «17 تشرين».نجحت هذه الماكينة ولو بشكل متفاوت بزرعها هذه المشهدية في أذهان الناس المتعبين أصلاً من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القاسية. ومع دخولنا العام الثالث بعد تظاهرات «17 تشرين»، التي مرّت عجافاً على الحزبَين السياسيين، مع افتقارهما لآليات الدفاع أو حتى قرارهما تجنّب الخوض في هكذا صراعات، واقتراب المعركة الانتخابية في الشهر الحالي، بدأت مشهدية إعلامية تتبدى، مع استنهاض هذه القوى لنفسها وشاشاتها، واشتغالها على تقنيات مختلفة، تحاول درء الاتهامات عنها، وتبيان الجزء المخفي من هذه البروباغندا.

ابتعاد «المنار» عن الإثارة والشخصنة التي لطالما طبعت برامج مكافحة الفساد

هكذا، شكّل الاستحقاق النيابي فرصة لكل من otv، و«المنار» للدخول في البرامج ذات الطابع الاستقصائي، وعرضهما للرأي العام حقائق وأرقاماً عُمل على تجميعها لأشهر أو حتى لسنوات طوال. فبدت كل من القناتين بحيّز مختلف جذرياً عما تسوّقه باقي الشاشات، التي رهنت منابرها للمرشحين وأموالهم الغزيرة مقابل الظهور الإعلامي. فقد أطلقت otv، في بداية شهر آذار (مارس) الماضي، برنامج «ساعة الحقيقة»، الذي انتهى موسمه الأول في نهاية نيسان (أبريل) الماضي، مع عرض تسع حلقات، تناولت ملفات الفساد، من الكهرباء، إلى المهجرين، و«الميدل إيست»، و«سوليدير»، والقروض المدعومة، والفيول المغشوش، وحاكمية «مصرف لبنان» وغيرها. برنامج أسبوعي، عُمل فيه على استجلاب عنصر الشباب لتقديمه، وأيضاً دمغه بالأدلة والمستندات، مع استضافة صحافيين واختصاصيين وحتى وزراء تعاقبوا على حقائب متصلة بمواضيع الحلقات. مسؤولة فريق الإعداد في البرنامج نانسي صعب تلفت لنا إلى أنّ «ساعة الحقيقة»، استغرق إعداده أشهراً طويلة، في تجميع المستندات، لعرضها على الرأي العام. صعب لا تنفي صلة البرنامج بالانتخابات النيابية، وتقاطعه معها، إلا أنها تركز بشكل أساسي على أهمية تحرّك القضاء، عبر الإخبارات، أو عبر المجلس النيابي، لتصل الملفات إلى خواتيمها. كذلك لا تخفي صعب، مدى تعب الناس من نوعية برامج مماثلة، حتى لو قدمت إليها مادة تكشف لها زمرة الفاسدين، فتؤكد لنا أن البرنامج الذي حقّق -كما تقول - نسبة مشاهدة عالية، لقي اهتماماً واسعاً من قبل «النخبة»، التي سعت لتتبع مسار البرنامج لمعرفة ماذا حدث بالملفات الحيوية الجوهرية في البلاد. وعن استقدام عنصر الشباب إلى البرنامج للقيام بمهمة التقديم وحتى تبسيط المعلومات للمشاهد، تربط صعب هؤلاء بما وصفته بـ «التغيير»، وبالرسالة التي يريدون إيصالها، مع معرفتهم المعمقة بهذه الملفات وغيرها. إذ تنتقد هنا، حمل الشعارات من قبل الشباب، من دون معرفة محتواها والإلمام بتفاصيلها.
وعلى مقلب «المنار»، دشّنت الأخيرة في نهاية آذار (مارس) الماضي، برنامج «الفساد والقضاء» المقتبس اسمه عن الكتاب الذي أطلقه «حزب الله» قبل شهرين ويحمل اسم «الفساد والقضاء: الملفات الكاملة 2018-2022»، وفيه يعرض الحزب 14 ملفاً للفساد في الإدارات العامة والوزارات، مدعمة بآلاف الوثائق التي أحيلت إلى النيابات العامة المالية، وقدّمت بعدها إلى لجنة «الإدارة والعدل» بعد المماطلة في القضاء، لتعود وتنتقل الشكوى إلى التفتيش القضائي. مسار قانوني شائك في بلد تحكمه العصبيات والخطوط الحمراء حول الفاسدين، وغياب المحاسبة، إلى أن تحوّل إلى كتاب يسعى ليطال الشرائح المجتمعية اللبنانية كافة، كما أكّد النائب حسن فضل الله، في الحلقة الأولى من «الفساد والقضاء»، عبر تحويله إلى مادة مرئية ومسموعة وإلكترونية، تُتيح للرأي العام الاطلاع على تفاصيلها، وتتبع مسار أكثر من ثلاث سنوات، من العمل التشريعي والرقابي، إضافة إلى الوعد الذي أطلقه أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، عام 2018، بمكافحة الفساد ضمن البرنامج الانتخابي لكتلة «الوفاء للمقاومة». كتاب وبرنامج أطلقا بعد صمت مدوٍّ للحزب طيلة السنوات الماضية، تحوّل فيها مسار التحقّق من ملفات الفساد منصةً للسخرية. وقد أراد منها اليوم، الدخول على خط كشف الفاسدين والمتورطين في إيصال البلد الى الانهيار التام، عبر استخدام لغة الأرقام والأدلة، بعيداً عن الصخب الإعلامي والتشهير الشخصي الذي عادة ما يترافق مع فتح هكذا ملفات. فلطالما ارتبطت البرامج الاستقصائية أو تلك «المتصدية» للفساد والفاسدين، بالانحراف صوب الشخصنة وتصفية الحسابات، سيّما في الفترة الأخيرة بُعيد تفجير المرفأ، واستغلال غضب الناس لتوجيهه إلى مآرب أخرى. معدّة ومقدّمة البرنامج منار صباغ، لفتت في حديث معنا إلى معايير المحطة التي ابتعدت عن الإثارة وحتى ذكر المتورطين رغم سهولة هذا الأمر، بما أنّ أسماء هؤلاء موجودة ضمن مستندات وأدلة تدينهم. يتقاطع كلام صباغ مع ما قالته صعب، في جذب البرنامج للنخبة، وتمتعه باهتمام بعض الجهات حتى الدولية التي تشتغل على مبدأ الشفافية ومكافحة الفساد، وبالكتاب وما أورده من حقائق. تؤكّد صباغ هنا، على متابعة هذه المسارات قضائياً، بعيداً عن تصفية الحسابات والاستثمار الانتخابي، وحرص المحطة على نشر مضامين الحلقات على المنصات الاجتماعية، لتصل إلى أكبر شريحة من الناس، للاطلاع عليها ومعرفة الفاسدين، وبالتالي السعي نحو حماية المال العام، وأيضاً الرد على الحملات التي تطال «حزب الله» بطريقة تتكئ على المهنية والدقة والمنهجية في العمل. هكذا، ترسم كل من القناتين مساراً إعلامياً مختلفاً عن باقي الشاشات، وتضع أمام الرأي العام جهداً لافتاً في كشف الحقائق وبؤر الفساد، في زمن التشهير والاستغلال السياسي وأيضاً التضليل الإعلامي الذي ما زال قائماً مع أدواته وعلت أصواته أكثر في زمن الانتخابات.