مَن منّا لم يشاهد أو يسمع «الملك» أنطوان إلى جانب السيدة العظيمة فيروز في مسرحية «ناطورة المفاتيح» (الأخوان رحباني)؟ مَن لم يشاهده في «صيف 840» لمنصور الرحباني؟ بعد الشائعة البغيضة التي تناقلتها وسائل الإعلام عن رحيل الفنان أنطوان كرباج (1935)، يوجّه أصدقاؤه ومحبّوه وزملاؤه (النجم جوزيف بو نصار، رائد التمثيل الإيمائي فايق حميصي، وابن مؤسِّس المسرح الوطني اللبناني نزار ميقاتي الفنان عمر ميقاتي، والفنان محمد عقيل، والنجم سمير شمص، والفنان أنطوان الصافي ابن وديع الصافي) هنا تحية حبّ وتمنٍّ بدوام الصحة والعمر المديد لـ «بربر آغا».

أطلعنا جوزيف بو نصار على تاريخ علاقته بأنطوان: «كان عمري 16 سنة حين دخلتُ «مدرسة المسرح الحديث» لدى منير أبو دبس. فوجئتُ هناك أنّ ثمة ممثلاً متكاملاً مثابراً منتظماً مثالاً يُحتذى به اسمه أنطوان كرباج. أنا وكل الطلاب الجدد كان مثالنا أنطوان، وقد حقّق توازناً بين القدرات كافة، هالةً وقامةً وصوتاً وحضوراً». ويوضح الصلة الفنية الوثيقة بينه وبين أبو دبس: «بشكلٍ عام كل مخرج مسرحي أو سينمائي يكون لديه نموذجٌ (Cobaye على حد تعبير بو نصار الذي شدّد على تفسير الاصطلاح بالعربية والفرنسية معاً منعاً للالتباس) بوصفه منفّذاً يطبّق نظريته في التمثيل، مثلاً بيرغمان كان يطبّق نظريته ماكس فون سيدو. كل المخرجين لديهم ممثل يوصل رسالتهم الإخراجية. أنطوان كرباج كان يوصل نظرية منير أبو دبس في العمل المسرحي والتمثيلي».
أمّا فايق حميصي، فيرى أنّ «العصافير إذا تشابهت قلّت قيمتها وما يميّز عصفوراً عن آخر فرادته وندرة نوعه، والجواهر إنْ كثرت قلّت قيمتها فما يميّز جوهرةً عن أخرى جودتها، والخيول حين نجهل أصالتها ينتفي تقديرها». بهذا المعنى في تقييم حميصي أنطوان كرباج كان فريداً ومتميّزاً وأصيلاً. ويردف قائلاً: «عرفَ فرادة صوته فأحسن تدريبه ليحافظ على بريقه، وأدرك تميّزه فحافظ على احترام زملائه بتواضعه. اكتنهَ كرباج أنّ الأصالة مفتاح التقدّم بجدارة في عمله، فأحسن تقدير الأمور بميزان أصالتها. تجلّت هذه الصفات في كلّ عملٍ فنّي رأيناه فيه نجماً ولم يرَ فيه نفسه إلاً ممثّلاً يتلمّس طريقه لتأدية هذا الدور بإخلاصٍ للنص والرؤية الإخراجية. أنطوان كرباج عصفورٌ نادر يطير بتميّز في الفضاء ويقفز كفَرسٍ أصيل على الرمال».
عمر ميقاتي يقول لنا إن أنطوان كرباج هو الاسم الذي تعشقه الآذان والعيون والفارسُ المسرحي الرائع بالصوت الجهوريّ الذي أحسن التحكّم بطبقاته وفقاً للشخصية المؤدّاة. «كانت له مساهمة قيّمة في المسرح الكلاسيكي العالمي المترجَم في إطار اللغة العربية، وكان متفوّقاً في مسرح الرحابنة». التقى عمر ميقاتي كرباج في عملين كما يؤكّد، أحدهما في «تلفزيون لبنان» بعنوان «الضحية» (إخراج باسم نصر). يذكر ميقاتي أيضاً أنه مثّلَ إلى جانبه مطلع التسعينيات في «استديوهات عجمان الخاصة» في «جحا الضاحك الباكي» (تأليف مروان العبد). من سمات أنطوان بحسب أقوال عمر أنه كان متواضعاً ولطيفاً: «كان بيننا تجاوُب الاحترام وتناغم المهنة والاحتراف»، مختتماً همسَ ميقاتي: «عافاه الله وحماه. أنطوان رمزٌ من رموزنا الثقافية والفنية الراقية». بعد الشائعة التي مسّتهُ، تأثّر عمر متسائلاً: «أنّى للأموات أن يدفنوا الأحياء؟ ربّما ثمة مَن نراه في موقع المسؤولية يعيش في كوكبٍ آخر! لا يغادر أحدنا هذه الدنيا إلاّ بميقاتٍ». قبل سفره إلى إسطنبول لتصوير فيلم «الهيبة»، باح لنا محمد عقيل بأنّ عينَيْ أنطوان كرباج كانتا تستميلانه. كان يشعر بأنّ هذا «التشوّه الخِلقيّ» -على حدّ تعبيره- هو ما أعطى هذا الممثل شخصيته المتفرّدة، إضافةً إلى صوته الجبلي الجهوريّ الذي يشكّل لهم كممثلين ثلاثة أرباع حضورهم على الخشبة. وفي تجربة أنطوان في المسرح الغنائي الرحباني، يَعُدُّ عقيل كرباج ركناً من أركان بنائه وتكوينه، وبالتالي من تكوين «لبنان- الفكرة» في نظر الرحابنة، لا بنظر عقيل.
أنطوان كرباج كان يوصل نظرية منير أبو دبس في العمل المسرحي والتمثيلي (جوزيف بو نصّار)

أنطوان كما يراه عقيل ركنٌ وعمودٌ من أعمدة التمثيل في لبنان عموماً والمسرح خصوصاً منذ قيامته حتى وقتٍ قريب مضى.
سمير شمص قال لنا إنّ صديقه أنطوان كان أستاذاً في التاريخ والجغرافيا، إضافةً إلى مكانته في الفن على اعتباره ممثلاً كبيراً شارك في أعمال معروفة جداً. أخبره أنطوان بأنه تعرّض في طفولته لخطر الموت على إثر حادثٍ فتوقّف قلبه عن النبض ثلاث دقائق وأصبح لا يرى ولا يسمع ولا يتحرّك! قال الأطباء يومذاك إنه سيموت لكن بإرادة الله شُفيَ. وأخبره أيضاً بأنه تعرّض لاحقاً في طفولته لخطر بتر رجله بعد سنوات إثر حادثٍ آخر لكنه تعافى بعد أعوامٍ عدّة. يقول شمص: «هذا الإنسان قدّم أعمالاً خلال تاريخه لطالما كان معروفاً أنّ أكبر الفنانين لا يقدّمونها، وكان مشهوراً بصوته الجهوريّ وتمثيله الجميل في المسرح والتلفزيون، إضافةً إلى نشاطاته الأخرى في نقابة الممثلين حيث انتُخب نقيباً. استناداً إلى العشرة بيننا في النقابة، لمستُ في شخصيته مدى حبّه لزملائه».
أفادنا أنطوان الصافي من تونس بأنه تعرّف إلى «الحبيب ذي السطوة» أنطوان كرباج من خلال ملاقاة والده وديع الصافي في المطار، وفي مناسباتٍ ثقافية وفنية متنوّعة جمعتهم. كان حضور كرباج يعبق كل مرّة بحرارةٍ إنسانية فريدة، ولا سيما في استقبال وديع واحتضانه. ثم جالسَ أنطوان الصافي كرباج ورافقه بعد ذلك في مناسباتٍ عدّة برفقة صديقهما أنطوان أبو جودة (رئيس «التجمّع الوطني للثقافة والبيئة والتراث») وكان يدعو أنطوان غندور، وجوزيف عنداري، ووليم حسواني، وشخصيات ووجوهاً ثقافية وفنية وأدبية، وشعراء من الجنوب والشمال وبعلبك... «بفضل أنطوان أبو جودة، رافقتُ هذه النخبة الرائعة وكان يقلّني بسيارته مع أنطوان غندور وأنطوان كرباج فكنا نذهب معاً إلى حدثٍ ثقافي أو تكريمي معيّن. كان حظي كبيراً بمرافقة كرباج. ما لا يعرفه كثيرون عن كرباج أنه كان شاعراً وصاحب كلمة»، كما يؤكّد أنطوان الصافي، موضحاً أنّ ذلك من ضمن ما ميّزهُ بتركيزه القويّ وفي أساس شخصيته. كان أيضاً متفاعلاً مع محيطه، ويكمن تميّزه في بيئته الثقافية والأخلاقية التي تكثّفت في نشأته في لبنان وقد نقلَها إلى خشبة المسرح. قلبُ هذه الثقافة هو الوفاء وعمودها القيم الإنسانية. حتى لو شتَمَ أحدهم أنطوان كان يسامحه في اليوم التالي ويجد طريقةً ليكلّمه لأنه مجبولٌ على القيم هذه، والوفاء قلبه ولُبّه. لم يكن يشبه وديع الصافي برفقته ومشاويره إلاّ أنطوان كرباج. كنّا نغنّي يوماً كاملاً ولم يكن يرتوي من المغنى! كنا نتلو «ردّاتٍ» في أفلاك الشعر ولم يكن يشبع من كل ذلك. إنسانٌ نادر، أطال الله عمره».