كل هذه المعاني، تجسدها أنجيلا خليل، بشكل مقنع وسلس. في عملها على بناء الشخصية، انطلقت أنجيلا وفق منهج أكاديمي ومهني. غاصت في تفاصيل شخصية النص الأصلي، تعمقت في دراسة تاريخها، وطفولتها، ومستواها التعليمي، والاجتماعي... ذهبت إلى حد تخيّلها في السرير مع حبيبها، كيف كان شكل علاقتهما؟ تسأل الممثلة، التي انطلقت في تشكيل البنية الجسدية للشخصية، وفقاً لمنهج مايكل تشيخوف (1891 ــ 1955) الذي يراهن على الجسد وميكانيكيته في توليد الإحساس. الحركة الجسمانية يحكمها التشنج العضلي في الكتفين، واليدين، والرجلين، مما يولد إحساساً بالهجن.
ماذا عن الخيار الإخراجي؟ لقد قرر هاغوب در غوكسيان، الدخول في متاهة المونودراما النفسية، التي عادة ما يكون تجسيدها دقيقاً. كان الخيار حساساً إلى أبعد ما يمكن. لمدة أربعين دقيقة، لا تبارح الممثلة طاولتها، التي تحولت إلى معقل للانزواء. قد يكون ما فعله مخرج العمل مضجراً بالنسبة إلى البعض. إلاَّ أنه في خضم نص مكثف بالمعاني الفلسفية، يجوز ذلك، لأنه يدفع المتفرج إلى معاودة الاتصال بنفسه، فإلقاء النص بحد ذاته، يتطلب تحفيزاً ذهنياً، وجهداً مضاعفاً لتحليل المتلقي. لذلك، يمكن القول بأنَّ الإخراج الثابت والمختزل، أتى انعكاساً لاستسلام الشخصية للموت والانتحار. الشخصية، فقدت كل ما لديها، ولم يعد أيُّ شيء يحركها، إلاَّ الصوت، الذي تنتظره، ولا يأتي. يضمر العمل على بناء الشخصية ميكانيكياً، الكثير من الصور الشاعرية، التي تجسدها الممثلة، بحركة صدرها، عندما تشبه الحبيب بأنبوب، يمدها بالحياة، لتحوله إلى بحر راكد، يجعلها تتنهد، وتلفظ أنفاسها المتهالكة.
حرص المخرج هاغوب در غوكسيان على أنسنة السينوغرافيا
تنسكب إضاءة هاغوب در غوكسيان، على قطع الأثاث النافرة، بشكل يثير فضول المتلقي لمعرفة حالة الجمود التي تحكم مفاصل حياة الشخصية. لوحات زيتية، تمثال، راديوفون، تعبث بخيال المتفرج، وتدفعه للتساؤل عن هذا الفضاء السينوغرافي الجامد، مقابل خلفية بيضاء، باردة، ومجردة. تتوسط المسرح، طاولة خشبية، أشبه بمطهر، تعرّي بطلة المسرحية فوقها، أحاسيسها، وشغفها، وأنثويتها. السينوغرافيا هذه، تعكس النفس البشرية للشخصية، «إذا دخلت في أحشائها، سترى هذه الألوان، وهذه اللوحة، وهذه القطع المبعثرة»، يقول در غوكسيان. لا تأتي قطع الأثاث في «ألو؟؟»، بدافع التزيين، وإنما ترجمةً لخواء هذه المرأة المتهالكة. تلعب الإضاءة البرتقالية الحارقة، دوراً كبيراً في إضفاء جوّ عام من السكينة التي هي أشبه بسكينة الإنسان في لحظات السهاد، أو ربما، في لحظات الحياة الأخيرة. تمنح الإضاءة كذلك شعوراً بالقلق والتوتر والخوف. لكنها في الوقت ذاته، تأتي مفعمة بالعاطفة. حرص هاغوب در غوكسيان، وهو أستاذ في الإخراج والإضاءة المسرحية، على أنسنة السينوغرافيا، لتكون فعالة، غير سلبية. حتى إنَّ الشخصية لم تتمكن طوال فترة العرض، على مغادرة بقعة الضوء. لقد كان واضحاً من خلال هذا الخيار السينوغرافي، أن يحول المخرج الظلام، إلى مساحة شبه محرّمة للتنقل.
تستسلم شخصية كوكتو للانتحار في نهاية المطاف، تتجسد نهاية اللعبة الإخراجية أيضاً على المسرح، عندما تغادر الممثلة الضوء الحارق، لتذهب وراء الستائر البيضاء، حيث برودة الموت الذي تجسده الألوان الباهتة، المنبعثة من ثلاجات الموتى. لقد وصلت الشخصية إلى أعلى مراحل فهم الذات... الموت. الشخصية التي يقدمها المخرج، أشبه بثورة في عالم الهشاشة البشرية. هكذا أراد كوكتو للنص أن يشكل عصفاً فلسفياً، في ذهن الجمهور، يحيلنا إلى التفكير في الوجود والإنسان. لقد كتب كوكتو النص منذ حوالي تسعين عاماً، دخل إلى النفس البشرية، التي تبقى عصية على الفهم، مشرّحاً الألم، بتعاطف كبير مع شخصيته الأنثوية.
«ألو؟؟»: س: 19:30 كل خميس وجمعة وسبت وأحد لغاية الثالث من نيسان (أبريل) المقبل ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422