لا تختلف الحبكة الدرامية، بين نص مسرحية «ألو؟؟» (إخراج هاغوب در غوكسيان ـ أداء أنجيلا خليل)، والنص الأصلي «الصوت البشري» للكاتب الفرنسي جان كوكتو (1889- 1963). إذ تقوم المونودراما على امرأة واحدة، تهاتف حبيبها، الذي لا نسمعه ولا نراه، في حوار متقطع يلعب الغياب بطولته الرئيسية. يتم تقديم هذا النص المكثف بالمعاني الفلسفية والوجودية في مسرحية «ألو؟؟» وفق بناء درامي، متماسك، لين، ومختزل، يفضح هشاشة البشر وسرمدية الأحاسيس. إذا نظرنا تاريخياً إلى نصوص جان كوكتو، نرى أن هذا النص مغاير عن سابقه. لقد كان تلبيةً لصرخة ممثلات جيله، في ثلاثينيات القرن الماضي، بضرورة أن يكتب لهن نصاً، لا يطعن فيه تعاليم وتوجيهات الكتاب، التي تفرط في فرض تعاليم النص وتوجيهاته. لقد شكل النص، في تلك المرحلة، صرخة أنثوية، بوجه السلوكيات السائدة في أوروبا. دوّن كوكتو، شخصية امرأة، تحلم كل ممثلة بلعبها. شخصية، يحكم حياتها الأرق، تأخذ المنومات، تشرب الويسكي، تتناول حبات الشوكولا الداكن، تدخن بضجر، لملء لحظات الصمت المسرحي، التي تأتي ثقيلة ومتعبة. في «ألو؟؟»، ترتدي الممثلة البطلة، فستاناً أحمر، شبه عارٍ، لتكشف أحساسيها أمام نفسها، وحبيبها، وجمهورها. ربما أراد المخرج من خلال هذه الأزياء، أن يعيد للأنثى حيويتها، ورونقها، إثر هجران حبيبها لها، وزواجه من أخرى. غرف الفنادق، رحلة باريس، وبيتها في بيروت، أين لها أن تهرب من عبء الذكريات؟ يقودها ذلك إلى جلد ذاتها، والثورة على كل النظم. الشخصية، هي حالة من الرفض الأنثوي على السلطة الاجتماعية، إنها صرخة احتجاج، وتمرّد بوجه قساوة الحياة.
كل هذه المعاني، تجسدها أنجيلا خليل، بشكل مقنع وسلس. في عملها على بناء الشخصية، انطلقت أنجيلا وفق منهج أكاديمي ومهني. غاصت في تفاصيل شخصية النص الأصلي، تعمقت في دراسة تاريخها، وطفولتها، ومستواها التعليمي، والاجتماعي... ذهبت إلى حد تخيّلها في السرير مع حبيبها، كيف كان شكل علاقتهما؟ تسأل الممثلة، التي انطلقت في تشكيل البنية الجسدية للشخصية، وفقاً لمنهج مايكل تشيخوف (1891 ــ 1955) الذي يراهن على الجسد وميكانيكيته في توليد الإحساس. الحركة الجسمانية يحكمها التشنج العضلي في الكتفين، واليدين، والرجلين، مما يولد إحساساً بالهجن.
ماذا عن الخيار الإخراجي؟ لقد قرر هاغوب در غوكسيان، الدخول في متاهة المونودراما النفسية، التي عادة ما يكون تجسيدها دقيقاً. كان الخيار حساساً إلى أبعد ما يمكن. لمدة أربعين دقيقة، لا تبارح الممثلة طاولتها، التي تحولت إلى معقل للانزواء. قد يكون ما فعله مخرج العمل مضجراً بالنسبة إلى البعض. إلاَّ أنه في خضم نص مكثف بالمعاني الفلسفية، يجوز ذلك، لأنه يدفع المتفرج إلى معاودة الاتصال بنفسه، فإلقاء النص بحد ذاته، يتطلب تحفيزاً ذهنياً، وجهداً مضاعفاً لتحليل المتلقي. لذلك، يمكن القول بأنَّ الإخراج الثابت والمختزل، أتى انعكاساً لاستسلام الشخصية للموت والانتحار. الشخصية، فقدت كل ما لديها، ولم يعد أيُّ شيء يحركها، إلاَّ الصوت، الذي تنتظره، ولا يأتي. يضمر العمل على بناء الشخصية ميكانيكياً، الكثير من الصور الشاعرية، التي تجسدها الممثلة، بحركة صدرها، عندما تشبه الحبيب بأنبوب، يمدها بالحياة، لتحوله إلى بحر راكد، يجعلها تتنهد، وتلفظ أنفاسها المتهالكة.
حرص المخرج هاغوب در غوكسيان على أنسنة السينوغرافيا


تنسكب إضاءة هاغوب در غوكسيان، على قطع الأثاث النافرة، بشكل يثير فضول المتلقي لمعرفة حالة الجمود التي تحكم مفاصل حياة الشخصية. لوحات زيتية، تمثال، راديوفون، تعبث بخيال المتفرج، وتدفعه للتساؤل عن هذا الفضاء السينوغرافي الجامد، مقابل خلفية بيضاء، باردة، ومجردة. تتوسط المسرح، طاولة خشبية، أشبه بمطهر، تعرّي بطلة المسرحية فوقها، أحاسيسها، وشغفها، وأنثويتها. السينوغرافيا هذه، تعكس النفس البشرية للشخصية، «إذا دخلت في أحشائها، سترى هذه الألوان، وهذه اللوحة، وهذه القطع المبعثرة»، يقول در غوكسيان. لا تأتي قطع الأثاث في «ألو؟؟»، بدافع التزيين، وإنما ترجمةً لخواء هذه المرأة المتهالكة. تلعب الإضاءة البرتقالية الحارقة، دوراً كبيراً في إضفاء جوّ عام من السكينة التي هي أشبه بسكينة الإنسان في لحظات السهاد، أو ربما، في لحظات الحياة الأخيرة. تمنح الإضاءة كذلك شعوراً بالقلق والتوتر والخوف. لكنها في الوقت ذاته، تأتي مفعمة بالعاطفة. حرص هاغوب در غوكسيان، وهو أستاذ في الإخراج والإضاءة المسرحية، على أنسنة السينوغرافيا، لتكون فعالة، غير سلبية. حتى إنَّ الشخصية لم تتمكن طوال فترة العرض، على مغادرة بقعة الضوء. لقد كان واضحاً من خلال هذا الخيار السينوغرافي، أن يحول المخرج الظلام، إلى مساحة شبه محرّمة للتنقل.
تستسلم شخصية كوكتو للانتحار في نهاية المطاف، تتجسد نهاية اللعبة الإخراجية أيضاً على المسرح، عندما تغادر الممثلة الضوء الحارق، لتذهب وراء الستائر البيضاء، حيث برودة الموت الذي تجسده الألوان الباهتة، المنبعثة من ثلاجات الموتى. لقد وصلت الشخصية إلى أعلى مراحل فهم الذات... الموت. الشخصية التي يقدمها المخرج، أشبه بثورة في عالم الهشاشة البشرية. هكذا أراد كوكتو للنص أن يشكل عصفاً فلسفياً، في ذهن الجمهور، يحيلنا إلى التفكير في الوجود والإنسان. لقد كتب كوكتو النص منذ حوالي تسعين عاماً، دخل إلى النفس البشرية، التي تبقى عصية على الفهم، مشرّحاً الألم، بتعاطف كبير مع شخصيته الأنثوية.

«ألو؟؟»: س: 19:30 كل خميس وجمعة وسبت وأحد لغاية الثالث من نيسان (أبريل) المقبل ـــ «مسرح مونو» (الأشرفية ـ بيروت) ـ للاستعلام: 01/202422