ينحرف نص المسرحي الفرنسي ميشيل فينافير (1927)، «طلب تعيين» عن المسار السردي الذي كان متبعاً في أوروبا، في أواخر ستينيات القرن الماضي. «يفاجئنا هذا النص بجرأته في التعامل مع اللغة والكلام بحيث تتحول فيه إلى أداة عنف تدمر الإنسان» وفق ما تورد الباحثة السورية ماري إلياس، في مقدمة ترجمة النص الأصلي، في كتاب «أنطولوجيا المسرح الفرنسي الحديث». تعتمد مسرحية «طلب تعيين» (إخراج: حمزة حمادة، مساعد مخرج: صبا كوراني، دراماتورجيا: باسل شلغين)، على البنية الدرامية المتماسكة لنص فينافير، من خلال التسلسل الدائري، إذ تنتهي المسرحية من حيث تبدأ.
من العرض

تدور أحداث «طلب تعيين»، حول رجل يُدعى نادر (جوزيف زيتوني)، يسعى للحصول على فرصة عمل. وأثناء إجرائه مقابلة عمل، مع أحد مسؤولي تعيين الكوادر (طارق يعقوب)، يتعرض (نادر) لأسئلة شخصية تحيله إلى تخبطاته النفسية، ومشاكله مع زوجته (سارة عطالله)، وابنته الوحيدة (أنطونيلا رزق)، ذات العشرين عاماً، الحامل من غير زواج، من «رجل أسود». تُدخل أسئلة المقابلة، نادر، في متاهة وجودية دامسة، لتبدو كل الشخصيات سابحة في إطار فارغ، ومكبلة تماماً، غير مدركة للمستقبل وغير قادرة على الشعور باللحظة الآنية. فالماضي مجهول، والمستقبل والحاضر أيضاً. الأحداث كلها، تجري في الوقت نفسه، بما يجعل الشخصيات تائهة في بحور اليأس، وانعدام الشعور والإحساس بالحياة.
في هذا النص «لا نعرف من هو المخاطَب أو عمّ يتكلم». يأتي ذلك في محاولة لتكريس التشتت الذي يعيشه الإنسان المعاصر من الداخل، وفقدان الشعور بالوقت والتاريخ، خصوصاً أن الأحداث مبنية على العدم، انطلاقاً مما عاشته أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، عندما تغيرت مفاهيم الجدوى الإنساني وارتباطه بهذا الكون، نتيجة الكوارث النفسية والاجتماعية والاقتصادية. في عرض «طلب تعيين»، تمت المحافظة على بنية النص وتركيبته. يشدد الدراماتورج باسل شلغين، على أنَّه جرت عملية إعداد للنص، لا عملية اقتباس. تحكم العرض لغة الحياة اليومية، أكثر من التركيز على الأفعال. وقع الاختيار على اللغة العامية اللبنانية، في عملية الإعداد، انطلاقاً من أن النظام الاقتصادي الذي يحكم نص فينافير، شبيه بالنظام الاقتصادي الذي يحكم لبنان. انطلاقاً من ذلك، يكرس العرض عدداً من التيمات أبرزها «شكل السعي»، كمفهوم حياتي يتحكم بتصرفات واندفاعات البشر، والتساؤل عن الـ «أنا»، وقضية انتزاع الاعتراف. تتفرد في بعض الأحيان مسرحيات المسرح الفرنسي ما بعد الحديث، بلغة الخطاب الشاعري والعودة إلى الأساطير اليونانية. يتحقق ذلك في نص فينافير، من خلال ذكر بعض الأساطير كشركة «شيفا»، على اسم إله الخلق والتدمير، في الحضارة الهندوسية، وغيرها من الأمثلة التي تستحضر الميثيولوجيا.
يأتي الأداء التمثيلي واقعياً على عكس الإخراج


على صعيد آخر، كل الأماكن مهجورة، وغير مألوفة، فلا داعي لذكر المكان، فليس مهماً معرفة من هي الشخصيات ما دام الألم الإنساني يجمعها كلها. يغوص فينافير في ما هو أبعد من القوانين الحياتية، ليفتح أمامنا أسئلة غير متناهية، عن القدر الإنساني الذي يسبح دائماً في دوامة التناقضات، وبعجز تام. تأتي المسرحية على صعيد الإخراج، ضمن فضاءين مستقلين، الفضاء الأول هو الأسرة اللبنانية، والفضاء الثاني هو المقابلة التي يجريها أحد الموظفين مع الأب «نادر». تتفرع من الأسرة، فضاءات أخرى أيضاً. يترجم مخرج العرض حمزة حمادة، هذه المعاني، بشكل رمزي، لتكون السينوغرافيا، مختزلة. طاولة أفقية، غير مألوفة، ذات انحرافات حادة، ومبالغ فيها على مستوى الشكل. قد تشبه هذه الطاولة، الشركات القابضة ربما.
ينطلق حمزة حمادة، في عمله الإخراجي الأول، بعيداً عن الكلاسيكية، ويحرص على عدم ممارسة التغريب أو التطهير على الجمهور. يبتعد عن الكلاسيكية، أو كسر الجدار الرابع، فالجمهور لا ينغمس في الأحداث الجارية على الخشبة، لكن تتم ممارسة العنف انطلاقاً من اللغة التي يبثها النصّ. يجلس المتفرجون على الخشبة، كلٌّ من مقعده، سيرى منظوراً مختلفاً للشخصيات. الهدف من ذلك هو خلق التساؤلات عن ماهية الشخصية وجدواها. مما يحفز المتلقين، على إعادة تفكيك النص وتحليله. في خضم ذلك، يأتي الأداء التمثيلي واقعياً، على عكس الإخراج، في حين تأتي الإضاءة (تصميم: فارس خليف)، لتكرس ما تفعله اللغة، وهو العنف حيناً، والتنقل في متاهة الزمان والمكان حيناً آخر.
قد يكون هذا النص من أكثر النصوص فجوراً من حيث البنية الحديثة. لا حاجة للزمن عند فينافير، ربما تجري الأحداث خلال يوم أو أكثر. لا حاجة لمعرفة ذلك، هناك كمية من العنف، قد لا يستطيع المتفرج تلقيها في وقت العرض، لكن قد يخرج منه حاملاً الكثير من التساؤلات عن وحشية الأنظمة السياسية، أو الاجتماعية، أو الأيديولوجية... وقدرتها على التحكم بحياتنا اليومية.

«طلب تعيين»: س:20:00 مساء الخميس والجمعة والسبت والأحد (24، 25، ، 26، و27 آذار/ مارس) ــ «مسرح دوار الشمس» (الطيونة) ــ للاستعلام: 78/981154