هناك من لا يزال يتوهّم أنّ إعلام «الديموقراطيات» الغربية، يتّسع صدره لتعدّد الأصوات والحساسيات والآراء. لعل الأمر صحيح، حتى نصل إلى عتبة هذه البقعة من العالم. «دويتشه فيله» فصلت خمسة صحافيين عرب لأنّهم غرّدوا على حساباتهم على السوشال ميديا أو أعدّوا تقارير في منابر إعلامية في الماضي، تضامناً مع غزة وقانا، أو غيرهما من الساحات الشاهدة على المجازر الصهيونية. الزميل باسل العريضي أحد هؤلاء: لقد «أدين» بتهمة التعاطف مع أطفال قانا، في تقرير أعدّه قبل عشر سنوات على قناة «الجديد» في ذكرى المجزرة الصهيونية الفظيعة في البلدة الجنوببة (مرتين)، وبسبب تغريدات مناصرة لفلسطين و«راديكالية» تجاه العمالة. ألمانيا المثقلة بذاكرة الهمجية النازية، يكفّر نظامها السياسي عن ذنوبه على حساب شعوبنا المحاصرة بالمحرقة الصهيونية. إنّه «صيد الساحرات» في أبهى تجليّاته! طبعاً، التهمة الجاهزة في هذه الحالات هي معاداة السامية، لكن ما تريده فعلاً منظومة الهيمنة، هو تدجين النخب العربية التي تعمل لديها، وترهيبها، وتعميم السردية الإسرائيلية في ما يتعلق بفلسطين. وإذ بالإعلام «الحرّ»، يتحوّل إلى شركة علاقات عامة في خدمة «إسرائيل»، رأس حربة المصالح الاستعمارية لهذا الغرب الذي «يُؤستذ» علينا في الحضارة والحرية!
المضحك أنّ «دويتشه فيله»، الذراع الإعلامية للسياسة الألمانية في المنطقة، تتكرّم علينا بدورات تدريب للصحافيين العرب الشباب، لتعلّمهم أصول المهنة، وتحرّضهم على «الحرية»… لكنّ ديموقراطية الجلاد لا يمكن أن تتّسع لحرية ضحاياه!
ألمانيا عملت (ولا تزال) بشكل ممنهج على تدجين المثقّفين والمبدعين العرب الذين هربوا إليها من جحيم «الثورات» الني انقلبت حروباً أهلية... المخرج الكويتي سليمان البسام يتوقّف عند حقيقة مؤلمة في مسرحيته «آي ميديا» التي شاهدناها أخيراً في بيروت. البطلة الإغريقية ميديا (حلا عمران)، استحالت على خشبته لاجئةً عربيةً معاصرةً، تصرخ بوجه «كريون» حاكم «كورنثيا»/ مجازاً عن الغرب المهيمن، وتتّهمه بإشعال الحرائق في بلادنا، قبل أن تلفظ الامبراطورية ضحايا سياساتها الهاربين إلى ضفة «الحرية»!
ألمانيا الرسمية، تعمل، باجتهاد، على تدجين النخب العربية، تصرّ في كلّ مناسبة على توريط فنانين ومثقّفين ومبدعين عرب في مشاريع تطبيعية، تحت عناوين تمييعية لحقيقة الصراع مثل «السلام والحوار بين الأديان» (راجع مقالة منشورة سابقاً على موقعنا). يوماً بعد آخر، تزداد الصورة وضوحاً، والطريق إلى كيّ الوعي يمرّ حكماً بالثقافة والإبداع والإعلام. خطوة «دويتشه فيله» لا تنفصل حكماً عن قرار البرلمان الألماني باعتبار «حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات ضد إسرائيل» حركة «معادية للسامية».
بعد كل هذا، نحن، على خطى «ميديا»، نتّهم بدورنا هذه المؤسسة الإعلامية بأنّها أداة بروباغندا وقحة وصلفة، تلقّننا دروساً في الديموقراطية والحريات، فيما تمارس رقابة على مناصري فلسطين تذكّر بأبشع الصفحات في تاريخ ألمانيا الحديث... إدانة إسرائيل باتت جريمة يعاقب عليها القانون! قرار طرد مجموعة إعلاميين عرب عبّروا عن موقفهم السياسي، من محطة ألمانية رسمية تتوجه إلى العرب، يخبرنا الكثير عن ديموقراطية الجلاد… ولن تكون نتيجته إلا تعزيز الشعور بالظلم لدى Medea العربية، وترسيخ فلسطين في وجدان شعوب المنطقة وأحرار العالم... نعم، أحرار العالم في ألمانيا وغيرها!