ربما تكون الشجاعة هي الوصف الأدقّ لما أعرّف به المفكّر الراحل سيد القمني، لأنه استمر في مشروعه في إعادة قراءة التاريخ، وخصوصاً التاريخ الإسلامي، بالاستناد إلى الكثير من المدوّنات المسكوت عنها، والمُزاحة من المتن الرسمي السائد في تتبّع تاريخ الإسلام، وبالتالي في الأسس التي بنيت عليها خطابات الإسلام السياسي القائمة على التكفير وإقصاء الآخر، وتقديم تحليله الخاص لتلك الكتابات. عُدّت أفكار القمني سباحةً ضد التيار في تناول التاريخ الإسلامي خلال التسعينيات. وتلك الفترة كانت قد شهدت مداً في الأفكار الراديكالية التي تتبناها جماعات الإسلام السياسي، ورافقها عدد من الأحداث الكبرى الممثّلة في عمليات تفجير استهدفت السياح، وعمليات اغتيال لعدد من رموز السياسة المصرية أبرزهم وزراء الداخلية والأمين العام لمجلس الشعب. وقد كان من المتوقّع أن يتعرض هو بدوره لمثل هذه التهديدات والمسارات ذات الطابع العنيف التي راوحت بين التهديد بالقتل، وتشويه السمعة والاتهام بالزندقة والكفر والعمالة، ثم التشكيك في شهاداته الأكاديمية، وغير ذلك من وسائل التكفيريين في خصومة من يختلف مع ما يظنونه الحقيقة الوحيدة.


ومثّلت أفكاره نسقاً من الأفكار التي يمكن الحوار معها أو رفض بعضها، فهي أفكار في نهاية الأمر يمكن الاتفاق معها أو الاختلاف حولها. وفي جوهرها، هي رؤية تتبنّى الظروف السياسية التي أحاطت بانتشار الإسلام، بعيداً عن الرؤية الدينية. أفكار تتوفر لدى عدد من المستشرقين أيضاً، بمعنى أنها ليست ابتكاراً أو اختلاقاً من القمني قدر ما كانت إعادة قراءة وتأمل وسرد لتلك الأفكار التي تتكئ على مناهج أكاديمية وتاريخية أوروبية وغربية بشكل عام، لكنه حاول أن يقدم تحليلاً دقيقاً لها.
لكنّ الأهم أنها فتحت باباً للبحث عن النصوص المرجعية التي عاد إليها في كتبه، خصوصاً «الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية»، و«الجماعات الإسلامية: رؤية من الداخل»، و«الإسلاميات»، و«الإسرائيليات»، و«النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة»، و«حروب دولة الرسول»، و«النبي إبراهيم والتاريخ المجهول».
كما كانت كتبه داعيةً لمزيد من البحث، والبحث عن كتب بعض المؤلفين التي تناولت أفكاراً مثيلة أمثال مكسيم رودنسون، ثم محمد أركون، ومحمد عابد الجابري، ونصر حامد أبو زيد وسواهم.
والحقيقة أن القمني ظل مدافعاً عن أفكاره، وشارك في مناظرات عدة مع بعض الدعاة الإسلاميين الذين كانوا يعدون أنفسهم في خصومة معه. حتى إنه بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية في عام 2009، تعرض لحملة أخرى، إذ قام الداعية الإسلامي الشيخ يوسف البدري برفع دعوى قضائية، ضد كل من وزير الثقافة فاروق حسني والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة علي أبو شادي وشيخ الأزهر، بسبب فوز سيد القمني والدكتور حسن حنفي بجائزة الدولة التقديرية لذلك العام. وهو ما اعتبره البدري إهداراً للمال العام لأنهما من وجهة نظره يسيئان إلى الذات الإلهية وإلى الإسلام.
واصل مشروعه في إعادة قراءة التاريخ، بالاستناد إلى المدوّنات المسكوت عنها، والمُزاحة من المتن الرسمي


لكنه عقب تلقيه تهديداً صريحاً بالقتل نشر نصه آنذاك، في عدد من الوسائل الصحافية، أعلن فجأة قبل توبته عن أفكاره والتوقف عن التعليق أو الظهور الإعلامي. مع ذلك، فقد بدا الأمر وسيلة لحماية أبنائه من أي أذى محتمل. أما أفكاره وكتبه، فهي متاحة ومتداولة بشكل عام، وتظل خاضعة مثل أي فكرة أخرى للنقاش والقبول، لا أن تكون موضعاً للتكفير والحضّ على القتل.
رحم الله المفكر الراحل الذي قدّم نموذجاً آخر لما يواجهه أي مفكر حر، وهو نموذج كاشف للمناخ المهدد لمن يحاول أن يطرق باباً مسكوتاً عنه أو غير مألوف في الفكر العربي والثقافة العربية، أو يفتح باباً للاجتهاد والتفكير.

* كاتب وروائي مصري