تستحيل قراءة الموسيقار عمار الشريعي (1948 ـــــ 2012) في مقال أو كتاب. نستذكره بعد سنوات تسع وهو الذي ملأ الدنيا موسيقى إلى أن جعلنا نراها ونسمعها في آنٍ. «ازاي تشوف الموسيقى» هي الجملة التي قصد استخدامها في برنامج «سهرة شريعي» الذي قدّمه بنفسه محلّلاً الموسيقى لتطاول غير الملمّين بهذا الفن، واستضافة نجوم جلّهم من الفنانين والموسيقيين المصريين. جميلاً كان ببسمته وأناقته وثقته بنفسه، صارماً وحازماً برأيه، وهو الصعيدي ابن مدينة سمالوط أحد مراكز محافظة المنية. والده علي الشريعي من كبار المزارعين وأحد أعيان سمالوط وعضو مجلس الشعب، كذا كان جده لوالده محمد باشا الشريعي، يعترف مجاهراً أن حبّه للموسيقى سببه عبدالله محسن مدرّس الألعاب الرياضية. أما قصة إبداعه الموسيقي التي يتصوّر بعضهم أنها تتشابه مع كثر، شأنه شأن العظماء، مختلفة بعض الشيء. لا يمكن نكران أنّ عمار تميّز بطعم وإحساس وخليط من الطرافة قلّ نظيرها. عارضه الجميع من عائلته، ولا سيما والدته لمدة خمس سنوات، فقطعت علاقتها به، إذ كانت تشاهد طه حسين أو عباس العقاد جديداً من خلاله، ولم تكن لترضى في أي حال من الأحوال أن يصبح موسيقياً.

يتكلم عن والدته كما لو كانت مدرّسة ألف باء الموسيقى بالنسبة إليه. يستذكر بوجدان عالٍ عذوبة صوتها وحفظها للتراث، ولكنتها الصعيدية، والأهم عشقها لمحمد عبد الوهاب بوصلة الفن بالنسبة إليها. يحدِّث دوماً عن مقاطعة العائلة له بقرار واضح، ما جعله يعتمد على نفسه فعمل في شارع الهرم، وعزف خلف الراقصات في بداياته. شكّلت وفاة والده خسارة لسنده. تدمع عيناه الساحرتان كأنها مأساة متكرّرة كلما روى تلك الحادثة، فتجد الإحساس المرهف للفنان حين حاول أن يعقد صفقة مع ربّه، مطالباً إياه بترك والده وأخذه مكانه. ولم تتم تلك الصفقة التي تحسّر عليها في كل مقابلة، وكان صوته يغصّ حالما يصل إلى ذاك المشهد الدرامي.
لعمار آراء خاصة في السياسة: اتُّهم بالشيوعية في عهد أنور السادات، ولم يلبث أن سُحبت التهمة من التداول ليستمر بعدها متمرداً ولا سيما في الأغاني التي أطلقها عبر «فرقة الأصدقاء». لا ينكر عمّار الحادثة، كما لا ينكر أنه منحاز إلى صفوف الفقراء وعامة الناس حين تسأله بالمباشر. من هنا، لا يمكن لأذن آدمي متعطّش للحرية، إلا أن تغوص في مغناه في رائعة فيلم «البريء» (1986 ـــــ إخراج عاطف الطيب ـــ كتابة وحيد حامد ــــ بطولة أحمد زكي ومحمود عبد العزيز) حيث يتجلّى إحساسه المكثّف بالظلم وبالثورة في آن. وفي مسلسل «الأيام» (1979) سيرة الأديب طه حسين، يمكن أن نرى اللحن قبل أن نسمعه. قد يكون لحنه قريباً منه بحكم تشابه الحالة التي تجمعه بـ «عميد الأدب العربي». وقد لعب صوت علي الحجار وإحساسه دوراً أيضاً، ولكنه يبقى في النهاية نفس وإحساس عمار الشريعي.
بدايته من الصفر لم تجعله يقف عند حدّ الأكورديون، الذي يُعتبر أستاذاً في العزف عليه كما يقول الملحن حسن أبو السعود. وصلت أنامله مصادفة إلى آلة الأورغ، وقد أهداه واحداً الموسيقار بليغ حمدي، ليعزف أمام أم كلثوم، لكنه سُرق من قبل سائق التاكسي، فخسر الفرصة كما يرويها بطرافة. أما العود، فيمكن مشاهدة الجودة العالية التي يتقنها في عزفه عليه كما في حال الصولو في موسيقاه في مسلسل «رأفت الهجان». وبالرغم من كل هذا الإبداع، إلا أنّ التواضع خيّم عليه. حسدَ زياد الرحباني لقدرة الأخير على الكتابة والتلحين في آن...
أما ما يؤكد أنّ خيال عمار أبدع من العيون (هو الذي كان كفيفاً)، فهو محاولة إبعاده خمس سنوات منذ 1974 لغاية 1978 عن الموسيقى التصويرية. كانت حجة الوسط الفني أن توقيت المشاهد، لا يمكن أن يفقهه مَن لا قدرة له على رؤيته. لكنه فاجأ الجميع بقدرته على تصوير المشهد في مخيلته والتزامه مساحة الوقت المطلوب لكل مشهد بعدما كان المخرج يقوم بشرح الصورة والوقت. ومن يمكنه حجب موسيقى مشهد منديل سعاد حسني حين تلوّح لعادل إمام والتناغم بين الفلوت والعود في فيلم «حبّ في الزنزانة» (1983 ــــ إخراج محمد فاضل ــ كتابة ابراهيم الموجي ومحمد فاضل) الذي حاز جائزة أفضل موسيقى تصويرية.
تجلّى إحساسه المكثّف بالظلم والثورة في فيلم «البريء» الذي تضمّن أغنيتين بصوته


حاول عمار تبسيط الموسيقى للمستمع وإبعادها عن التعقيدات. هكذا، عمد في برنامجه «غواص في بحر النغم» إلى تحليل وشرح الأغنيات لعامة الناس. كان تحليله حسياً لا علمياً كما قال حلمي بكر ثم عاود الكرة في برنامجه التلفزيوني «سهرة شريعي» عبر استضافة نجوم غناء وموسيقيين، وحتى مؤذّنين... كان تحليلاً راقياً مع فرقة موسيقية مميزة، وكان المشاهد البسيط يندهش لتلك القدرة والكاريزما في إيصال جملة موسيقية أو لحن ما بدون تعقيد مع وضوح في عمق المعرفة. في تحليله لمعزوفة «خطوة حبيبي» للموسيقار عبد الوهاب، تجادل مع أعضاء الفرقة بقيادة المايسترو خالد فؤاد حول العازف الأصلي للصولو، فتبيّن أنه محقّ وأن العازف هو أنور منسي كما توقّع هو. للوهلة الأولى، لا يمكن إلا أن تجزم أنّ عمار يرى أفضل من غيره، إذ كيف له أن يكسب الرهان في مقابل من يمكن له أن يشاهد بأمّ العين؟
بالرغم من نبضه الثوري والتعصب لمصر كما في أغنيته «أقوى من الزمن» لشادية حيث ظهر كمؤلف للمرة الأولى، إلى جانب تلحين الأغنية، إلا أنّه غلّف نفسه بثقافة الأدب الإنكليزي وهو خرّيج كلية الآداب فرع لغة إنكليزية من «جامعة عين شمس». وقد جاهد للحصول على شهادته بعدما استفزّته الأستاذة بطريقة غير مباشرة ليترك دراسة الإنكليزية. شجّع الجميع على الغناء. هكذا فعل مع الممثلة أمينة رزق في مسلسل «وقال البحر» لأسامة أنور عكاشة، ومع عمر الشريف في فيلم «الأراجوز»، أو عبد المنعم مدبولي في أغاني «توت توت وعم أمين»... وعلى سيرة أغاني الأطفال، استطاع مع المطربة عفاف راضي التوجه إلى شريحة للأطفال مع صديق عمره سيد حجاب الذي كتب له معظم ما لحّن. علماً أنه لحّن لمعظم الكتّاب الكبار أمثال عبد الوهاب محمد، عبد الرحمن الأبنودي، وحسين السيد، وغيرهم...
رحل عمار الشريعي وهو صريح بكلامه عن ذوق الجماهير وتسلّط الحاكم. جاهر بأنه لا يمكنه أن يلحّن لشخص لا يروق له. رحل بعدما أثقله تعب القاهرة، وهو الذي لحّن «هنا القاهرة». عُرضت عليه عملية قد يستعيد من بعدها نظره، ولكنه رفض بدون تردّد، معللاً أنه اعتاد الدنيا وفق بصيرة، ولا يريد أن يبدّد تلك الأفكار فيعيد صياغة مقاييس الحياة. أجمع المحيطون به على أنه يشاهد بقلبه وروحه، وأنه أكثر من ملحّن ومؤلف. أصرّ أن ينزل إلى ميدان التحرير في الثورة الأخيرة ووجّه رسالة إلى الرئيس مبارك أدمت من سمعها. عمار الشريعي أنموذج راقٍ لمبدع ملتزم بقضايا أمّته. مبدع يستأهل أن يُدرَّس، ويرفرف اسمه فوق شوارع عدة.