لا يرسم مازن الرفاعي بعلبك فقط، بل يُعيد تصويرها من زوايا خاصة، فتظهر، كأنها مكان آخر داخله. إنها مكان حميم وعميق يدعونا للتأمّل بمعنى المكان الآخر المتخيّل. في معرضه المُقام في «غاليري أجيال»، يأخذنا الفنان من مكانه الأول ومسقط رأسه بعلبك إلى مدينة فنّه المفتوح على التجريد وعلى المساحات اللّونية الدّافئة. كأنّه هنا يخترع ذاكرة أخرى في عالمه التجريدي المحلّق. ذاكرة نعلم أنها لا تخصّ بعلبك فقط، بل أثرها على روحه والبقع التي تركتها آثارها على عاطفته.في هذه الجغرافيا المتخيّلة، تستيقظ «مدينة الشمس» بنتوءات حاراتها القديمة وبالتفاصيل التي يراها الفنان كما يحب ويحلم. تتنوع اللوحات حيث الألوان القريبة من بعضها، مشكّلةً مكاناً واحداً يمكننا أن نراه من أكثر من زاوية. كأنّنا أمام فوتوغرافيا أخرى، عن مكان أليف. فوتوغرافيا تؤرشف ذاكرة مجازية أو ربما خيالية، آتية من منطقة بعيدة، ويمكننا تتبّع اللوحات المختلفة لنأخذ فكرة عامة عن المكان كما نُطالع الألبوم.
«من دون عنوان» (أكريليك على قماش ـــــ 100×80 سنتم)

هناك حضور كثيف للأصفر والأزرق كأنها لعبة الظل والضوء، فيتغيّر الوقت. نراقب زمناً يمرّ في هذه البيوت التي تتلاصق وتتجاور ولا نرى منها سوى زواياها. لا يعطي الرفاعي عناوين للوحاته التي تشترك أيضاً في أحجامها المتشابهة، لأننا هنا أمام عالم متصوّف مجرّد حتى من العناوين والأسماء. تحضر بعلبك في ذاكرتنا فقط لأننا نعرف أنها مسقط رأس الفنان، الذي يسمح لنا أن نتيه عنها. ربما يؤثّث الفنان هنا مدينة خياله، متأثراً بدراسته للهندسة. فهو يحمل درجة بكالوريوس في الهندسة من الجامعة اللبنانية، ودرجة في الفنون في إيطاليا، كما عمل رئيساً لكلية الفنون في الجامعة اللبنانية ودرس فيها.
لكنه من الواضح أنه يعيد هندسة ألوانه واندماجها مع بعضها وأحياناً يخرّب هندستها الحقيقية ليحصل على عمران آخر يطلّ على فضاء واسع.
هنا نتذكر ما قاله الفنان الأميركي التجريدي جاكسون بولوك بأن الفن التجريدي مثل الموسيقى يمكن فقط الاستمتاع به. هكذا تصبح هذه التشكيلات اللونية كقطع موسيقية متناغمة، كل قطعة نغمة متفردة. يجعلنا الفنان نتذوّق درجة الاختلاف بين كل لوحة وأخرى، وكيف تؤثث مع بعضها البعض مكاناً واحداً، وكيف تشكّل كل لوحة مكاناً ما متفرّداً داخل المكان، كأننا نلتقي في رحلة داخلية ببيوت قريبة من القلب، نعرفها جيداً وتشترك في داخلنا ببيوتنا وحارات الطفولة التي عشنا فيها، من أي مكان كنّا.
تحضر النوافذ والأبواب، وأحياناً نعثر على قمة السطح تتلاصق مع غيمة في السماء. تأبى الألوان هنا أن تعطي خريطة جامدة. ولهذا تبتعد عن كونها تصميماً داخلياً للمدينة، فنرى في بعض اللوحات أننا لا نستطيع أن نفسّر شكلها، وما إذا كانت جزءاً من بيت أو زقاق في الحارة أو مشهد علوي لسقف البيوت. هنا يحاول الفنان أن تقترب البيوت من فضائها وهي في عريّها الكامل، لتبدو كأنها فسيفساء لخريطة داخلية نتواصل معها بالحدس.
تسمح لنا هذه المساحات الملوّنة أن نخرج منها لنطل على معرض الرفاعي السابق «هيك السهول» (2019)، حيث يرسم سهول البقاع بمساحاته الخضراء الواسعة. يبدو أن مشروع الفنان هو استحضار الأمكنة الأخرى في مخيّلته. لكنه هذه المرة لا ينسى «فكرة الزمن» حيث يحضر الضوء ويغيب في بعض اللوحات. ولعله هنا يصل إلى ذروة عشقه للمكان بأن يحتضن زمنه، ظله، وضوءه. يستقر في هذا المكان المتخيل القادم من انصهار ألوانه بالذكريات، واتحادها بالحزن الذي نشعر به ونحن نقرأ اللوحات.
هناك أسى دفين، رغم الألوان المضيئة والفاتحة، ربما هو الإحساس بالغياب. فرغم أننا في عوالم تجريدية، لكننا نشعر بأن المكان يفتقد للوجوه، وربما للشخصيات. يجيبنا الفنان عن سؤالنا حول ذلك بقوله: «لم أرسم أشخاصاً في حياتي، ولا وجوهاً. نعم كنت أرسم الغياب».
وهنا ربما يحضر الصمت بقوة. المكان في اللون هادئ إلى درجة السكون. لقد رسم الرفاعي ذلك الغياب وذاك الصمت الذي يغلّف المكان بالنسيان. التجريد هو فن الغياب لدى مازن الرفاعي الذي يقترب من لوحاته كأنه يرسم ليقترب من الصمت الذي لا نسمعه في المكان ومن الأحلام التي تنسدل من زواياه. كأن الفن هنا هو الاقتراب من اللامرئي واللامسموع كما قال الرفاعي في حديثه عن المعرض: «إنّها لوحة الانعتاق من الواقع، ومشغولة بشهوة اللون والخلاص من الظاهر». وهنا أيضاً يتّضح اشتغال الفنان على موضوع واحد، ربما كي يستفزّنا بأن نقارن اللوحات بالمكان التي تتحدّث عنه، فنشعر كم ينزاح عن الموضوع وكم يفترق عنه.
تتخفّف اذن ألوان الرفاعي من موضوعها، لتبتعد عنه، كأنها تحاول أن تمسك باللون كي تحلّق، أو تجعلنا نتمسك بالألوان لنذهب أبعد، ربّما إلى داخلنا. إنها محاولة الإبحار نحو أمكنة أخرى يخترعها اللون ليصبح هو هوية أيضاً وانتماءً.

معرض مازن الرفاعي: حتى 4 كانون الأول (ديسمبر) ــ غاليري «أجيال» (الحمرا ــ بيروت). للاستعلام: 01/345213