من خلال التركيز على رجل لا يملك الكثير في الحياة ليتمسّك به، يُعيد «قهرمان» أو «بطل» (2021) تشكيل شخصية البطل، ويضعه في مجتمع يريد أن يصوّر نفسه على أنّه مثالي، بينما يختنق فيه الأفراد في ظلّ غياب التسامح. مجتمع يركّز فقط على ذنب أولئك الذين أخطأوا، حيث يحاول الكلّ تلميع صورته من خلال تمسّكه بالمثل العليا والأفعال الجيّدة لنفسه فقط. مجتمع لا يُعطي إلّا إذا أخذ، وأفراد يحسبون مكتسباتهم قبل أي فعل أو ردة فعل. يُظهر «قهرمان» الانكسارات داخل شخصية تحاول محاربة المحن التي تضعها الحياة في وجهها. بطل لا يمكن تلميع صورته إلا من خلال المواربة واللّعب على المشاعر وكسب التعاطف من خلال الأفعال الجيدة أخلاقياً، لأن المجتمع لا يسامح مَن يخطئ، ولأنّ «الصدق والأمانة والشرف» أهم من أي شيء آخر.عاد فرهادي إلى إيران بعد فيلمه الأخير «الجميع يعلم» (2018) الذي صوّره في إسبانيا مع بينيلوبي كروز وخافيير بارديم. عاد إلى مجتمع يعرفه حقّ المعرفة. عاد ليخلق شخصيات معقّدة وقصصاً تحتوي على استفزازات أخلاقية. يبدأ «قهرمان» بصورة متفائلة. رجل يخرج إلى الشارع بابتسامة تُنير العالم. ينظر يميناً ويساراً، يبتسم بقوة، وضوء يشعّ في عينيه. رحيم (أمير جديدي) لديه أسبابه للفرح، على رأسها الجهل بجدّية وضعه. خرج إلى حرية موقتة. حصل على تصريح لمغادرة السجن ليومين حيث يمضي عقوبة بسبب التعثر في سداد دينه. يخرج على أمل السداد والانتهاء من مشكلته. تمر الدقائق، ونتبع أحداث الفيلم ووجه رحيم يتغيّر باستمرار. الابتسامة ستتلاشى شيئاً فشيئاً في جو من الهلاك نقف أمامه عاجزين. يومان من الحرية حاول فيهما رحيم إيجاد حلّ لمشكلته بالاتفاق مع حبيبته فرخونده (سحر غولدست) التي وجدت حقيبةً مليئة بالعملات الذهبية في موقف للحافلات. اعتبر رحيم وفرخونده أنّ بيع العملات سوف ينقذه في سداد دينه لصهره السابق باهرام (محسن طنبنده)، وهذا من شأنه أن يفكّ أسره ويتزوج من حبيبته. عندما يزور رحيم وفرخونده محلّ الذهب، يكتشفان أنّ سعر العملات لا يكفي لسداد الدين لأنّ سعر الذهب انخفض بشكل كبير. يغيّر رحيم خطته، ويقرر أن يجد مالك الحقيبة ليعيدها إليه. خطة يدرسها جيداً ليتأكد بأنّ الجميع سيعلم بها. تسعد عائلة رحيم ومأمور السجن بإخلاصه وصدقه، فيستحيل بطلاً في نظر المجتمع، ومثالاً للمواطن الصالح. أصبح رحيم بطلاً وشخصيةً تلفزيونية، مشهوراً بصدقه. لم يعد سجيناً مجهولاً مثقلاً بالديون، بل سامرياً صالحاً مشهوراً. لكن عندما تنتشر القصة على وسائل التواصل الاجتماعي (يوجّه الفيلم نقداً لاذعاً لظاهرة مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تملك سلطة تطويب «قديسين» و«أشرار» من الناس)، تبدأ الأمور في الخروج عن السيطرة. يراود الشكّ كثيرين في أنّ قصته ما هي إلا كذبة بيضاء تؤدي الواحدة إلى أخرى أكبر، وعمل رحيم الصالح بات موضع تساؤل الآن. الجميع يريد أن يبيّض صفحته ويغسل يده مما يحصل.
«بطل» هو فحص حرفيّ للعدالة والظلم، والصدام المذهل بين رغبات الفرد وهواجسه


تبدأ الثقوب في الظهور في قصة رحيم، بينما يشتدّ الطوق على عنقه. تعتمد براءته على قدرته على الإقناع في شرح الأمور وكسب المعركة. مَن وجد الحقيبة؟ ومتى؟ ما كانت خطة رحيم الأصلية للحصول على المال؟ من هي المرأة التي أخذت الحقيبة مدّعيةً أنّها ملكها؟ لماذا تمدح سلطات السجن سجينها بهذه السرعة؟ ما دور الجمعيات الخيرية؟ لماذا دخلت حياة رحيم؟ لماذا لا يزال باهرام غاضباً يشكّ برحيم؟ يبدو رحيم رجلاً بريئاً بابتسامة متفائلة، لكن خلف تلك الابتسامة عقل يفكّر في المشكلة ويغرق ببطء في اليأس. هذا العمل «البطولي» يضعه الآن في ورطة أكبر. وكلّما حاول أن يكون أكثر صدقاً وحلّ المشكلات ليتمكن من السير في الطريق الصحيح، كلّما ازداد الأمر سوءاً. هل يستطيع رحيم الذي يبدو صادقاً أن يتحمّل كل الضغوط؟ رحيم غير متكيف مع مُجتمع ماكر، حاول أن يلعب لعبته ولكنه لا يجيد المكر مثله. تدور الدراما الأخلاقية لفرهادي حول ثمن الحرية بعناية شديدة على مدى ساعتين من أجل الكشف عن التفاصيل شيئاً فشيئاً. يترك الفيلم عقدة متشابكة حول العديد من القضايا، ويفتح نافذة صغيرة يلقي من خلالها الضوء على ما يحصل من نظرة ثانية، ويترك أيضاً للمشاهد ما يكفي ليفكر فيه.
أشار فرهادي إلى أنّ قصصاً مماثلة تذاع غالباً على شاشة التلفزيون في إيران. لذلك، نسج وخلق قصة أخلاقية معقّدة وسط غياب اليقين، ووضعنا في مدينة شيراز الإيرانية، كأنه يقول للمجتمع بأنّه هو يشك في هذه القصص والأخبار. قدّم شخصية رحيم المطلق والمعذب بهدوء، والأب لابن يتلعثم أو يعاني من إعاقة في الكلام. في بعض الأحيان، وضع فرهادي رحيم في وضع يسمح له بالإفادة من تلعثم ابنه. يضع فرهادي شخصياته عمداً في مواقف مستحيلة، ويضمن عدم خروجها بريئةً تماماً. خلق المخرج الإيراني معضلة أخلاقية شبه كاملة، مما يضع الجمهور باستمرار في وضع غير مريح أثناء استخلاص النتائج. قوة فرهادي أنّه يعرف مجتمعه ويعرف كيف يزعجه، وكيف يزعج المشاهدين ويجعلهم يواجهون تعقيد فصل «الصح» عن «الخطأ». في مجتمع أخلاقي، يمكن أن يكون للفعل غير الأناني لرحيم له تأثير إيجابي، ولكن عندما تكون الظروف والدوافع موضع تساؤل، يتحول الصالح فجأة إلى شرير، لأنّ الجميع يريد أن يحافظ على صورته الأخلاقية أكان أهل رحيم أو الدائن أو مأمور السجن أو حتى الجمعيات الخيرية والدولة نفسها. كرمت الجمعيات رحيم ووعدته بعمل لردّ الدين، ولكن الدولة تريد أن تعرف كل التفاصيل. كيف لها أن توظف شخصاً يقال بأنه كاذب؟ وإن كان كذلك، فالدولة لا تعطيه فرصة للتخلص من ديونه، بل تضعه في الزاوية لتكشف صدقه. يكبّلنا فرهادي كعادته، وفي فيلم مبني على الحوارات المدروسة جيداً، ليس لدينا إلا خياران لمعرفة الحقيقة: الوثوق بكلمة مَن يتكلم، أو العكس. فنحن في النهاية عبيد للقصة، هذه هي الطريقة الذي يغذي فيها فرهادي معضلاته الأخلاقية التي لا يتمّ حلها. نعم، إنه أمر محبط ولكن هذه هي لغة فرهادي الخالية من العيوب.
«بطل» الذي حاز الجائزة الكبرى في «مهرجان كان» الأخير، رشحته إيران ليمثلها في جوائز الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي. إلا أنّ فرهادي نشر قبل أيام على حسابه على انستغرام بأنّه يجب على الحكومة سحب فيلمه من السباق إذا كانت تعتبره أحد مناصريها. كتب: «على مدى سنوات، اتهمتم أعمالي بأنّها مزيفة، ومن المذهل اليوم مشاهدتكم تفعلون العكس». لا يمكن فصل الفيلم عن صرخة فرهادي الشخصية، فـ «قهرمان» هو فحص حرفيّ للعدالة والظلم، كأن فرهادي يصرخ، بأنّ إعطاء رحيم فرصة للعمل ليسدد دينه أسهل من ملاحقته وكشف إن كان يكذب! الفيلم تذكير بأن الحياة في المجتمع تنبثق من الصدام المذهل بين رغبات الأفراد وهواجسهم، وأنّ القدر في المجتمع الإسلامي يكبّل الجميع. وإذا كان فيلم «بطل» دراسة للحالة الاجتماعية في إيران، فستكون النتيجة الوحيدة هو فقدان الأمل بالمجتمع.