الحارات في الدول العربية تعجّ نهاراً: مع ضوء الصباح، يخلق سكّانها الحياة، تفتح المحلات، تطير الحمامات وينتشر الأطفال في الشوارع، ونبدأ بسماع أهل الحارة يلقون التحية على بعضهم ويتمنون نهاراً طيباً. في حارة باسل غندور، كل شيء معتم كصورة الفيلم. الحياة في هذه «الحارة» (The Alleys ـــ 2020 ـــ عُرض في «مهرجان لوكارنو السينمائي» ويعرض اليوم ضمن فعاليات «مهرجان لندن») تبدأ مع غروب الشمس. يلف الغموض الشوارع، يدور القيل والقال وينتشر العنف في سلوكيّات الناس، كما الإجرام تحت ضوء المصابيح. الحياة تبدأ مع ضوء القمر، ويتصادم الجميع. في هذه الحارة العمّانية، يعيش الشاب علي (عماد عزمي)، الذي يُرشد السيّاح إلى الحانات الليلية المجاورة، ويحصل على المال مقابل عمله. يعيش علي علاقة حب سرية مع لانا (بركة رحماني) بعيدة عن المجتمع وعن عيني والدتها أسيل (نادرة عمران). يصل ڤيديو مصوَّر على هاتف أسيل يُظهر علي ولانا في سرير الأخيرة مع رسالة صوتية من مجهول يطلب المال مقابل عدم نشر الڤيديو. الخوف يدفع أسيل لأن تقصد عباس (منذر ريحانة) رئيس العصابة في الحارة، فتطلب منه إيجاد المصوّر ومحو الڤيديو وإبعاد «علي عن ابنتها». يوافق عباس ولكن لا شيء بالمجان عنده. عندما يزداد الضغط على لانا وعلي، يقرّران الهروب والزواج. ينقلب كل شيء، يبدأ الخداع وتُراق الدماء مع مخططات الانتقام من عباس، ولجوء أسيل إلى كل شيء لحماية سمعتها أولاً وابنتها ثانياً.العادات والأعراف الاجتماعية تخلق حائطاً أمام سكّان هذه الحارة. منهم من يريد الهروب، وآخرون يريدون الموت، ومنهم من لديه تطلّعات وأحلام، والأكثرية تعيش على الجرائم الصغيرة للمضي قدماً. تبدأ باكورة المخرج الأردني باسل غندور (كاتب ومنتج فيلم «ذيب» المتوافر على نتفليكس)، في أزقة هذه الحارة، بينما يقصّ علينا الراوي الحكاية. خلق غندور بذكاء قصة صغيرة حدودها الحارة، ولكن طموحها يتجاوزها. لعب على خيوط رمزية الجرائم التي تورّط الجميع في تحالفات مريبة. أتقن باسل إلى حد ما، بخاصة في البداية، فنّ التلاعب بنا، من خلال التصميم الهيكلي للفيلم والشخصيات والمناخ العام. سرد لنا قصة مثيرة، موظّفاً أحداثاً واقعية حوّلها إلى قصص تشويق خيالية. خلق مناخاً من الترقب وطعّمه ببعض الأحداث المفاجئة وغير المتوقعة، التي نجحت أكثر في توريطنا في تحليل معطيات الفيلم. في النصف الأول من الشريط، كل شيء كان يسير بمثالية: الأحداث تتوالى والشخصيات تكشف عن حقيقتها، وتبدأ القصة بأخذ المسار المتوقع، إلى أن يقع حدث غير متوقع. ما فعله غندور في منتصف الفيلم، غيّر قواعد اللعبة بذكاء. إذ نجح في السيطرة علينا حسّياً، مورّطاً إيّانا كلياً في الشريط. تعاطى مع نهج الفيلم المرئي بطريقة ترمي إلى إظهار دائرة الحياة والصراعات العصيّة على الحلّ. منذ هذه اللحظة، أصبح كل شيء وكل شخصية قاب قوسين أو أدنى من مصيبة ما، ولا مسلّمات عند غندور.
فيلم جميل، مصنوع ومكتوب بحبّ لسينما التشويق والإثارة


لم يكمل غندور ما بدأه في النصف الثاني من الفيلم، إذ انقلبت الإثارة عليه. كأنه استنفد مخزون التشويق وبدأ فقط باستخدام «بطاقة» المفاجآت، بدلاً من إضافة المزيد من الطبقات على الأحداث. منذ تلك اللحظة، سيطرت الرتابة على العمل، ورحنا ننتظر فقط ما سيحدث من دون ترقّب. فقدت الشخصيات رونقها في هذا الجو القاتم، حتى الشخصيات الثانوية، أصبحت بلا حياة. فسّر لنا غندور كل شيء في الجزء الثاني، إلى درجة ما عدنا مهتمين بمعرفة مصير الشخصيات، حتى الراوي أفقده قوته. تحول الفيلم من قصة مثيرة إلى مجرّد أحداث تتوالى بلا اهتمام.
هناك صدق في قصة باسل غندور، مخرج يعرف المدينة والحارات والقصص التي تحدث داخل بيوتها. واضح كم هو ملمّ بالقصص التي يخبرنا إياها. لا شك في أنّ الفيلم مكتوب بشكل ممتاز، لكن نقله إلى الشاشة الكبيرة واجه صعوبات، وهي صعوبات الفيلم الأول المتوقعة. هناك جرأة في نقل الحياة الاجتماعية العربية إلى الشاشة الكبيرة. غندور فعلها، حتى إنّه تجرّأ على كسر التابوهات والأعراف، وقدّم العلاقات الاجتماعية والأُسرية ليس كما نراها عادةً، خصوصاً شخصية الأم وعلاقتها بابنتها. تاهَ غندور قليلاً في شوارع الحارة ووسط سكّانها، فرحنا كمشاهدين بلقائهم، لكنّ وقت الرحيل كان بخيلاً. أجلسنا الفيلم في البداية على حافة مقاعدنا، وودّعنا لحظة كنّا نهز رؤوسنا قبولاً بأيّ شيء يظهر على الشاشة، فأُصبنا بخيبة أمل وعتب المحِبّ. مع ذلك، «الحارة» فيلم جميل، مصنوع ومكتوب بحبّ لسينما التشويق والإثارة، ونادراً ما نرى هذا النوع في صالاتنا العربية.