جُرح يافا كان تأسيسياً في المسار الذي سيتّخذه فكتور سحّاب (1942). ابن ندى اليافوية وموسى الكسرواني، الذي ما زال قلبه معلّقاً في المدينة التي هُجّروا منها إبان النكبة، انبرى منذ طلعته على حفظ وتوثيق التراث الموسيقي والغنائي العربي. تلك معركة سياسية في المقام الأول. إنّها مقاومة على جبهة الثقافة في وجه المحاولات الإسرائيلية الممنهجة لمحو هوية ابن الأرض الحضارية. وفي هذا السياق تحديداً يندرج كتاب «الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) الذي صدر أخيراً بتوقيع الإخوة إلياس وسليم وفكتور سحّاب
يحمل فكتور سحّاب الكتاب/ القضية كما يسمّيه بيده، قائلاً لنا إنّه اقترح للغلاف صورة فرقة «إذاعة القدس» الموسيقية، لكنّ الناشر ارتأى الغلاف الحالي، مشدّداً على أنّه كان يفضّل الصورة التي اختارها تماهياً مع الصورة التي اختارها لغلاف كتابه «السبعة الكبار». أصرّ على أن تكون الصورة الأولى في الكتاب، تليها صورة له ولأخويه مع الوالدة ندى عطالله زبانة في يافا عام 1945. الصورة هي الأخيرة في يافا للإخوة المولودين فيها من أم فلسطينية وأب لبناني هو موسى إلياس سحّاب. بعد ذلك، انتقلت العائلة إلى عمّان سنتين وقرّر الوالد العودة إلى لبنان في عام 1947. هكذا يبدأ الحديث مع الباحث والمؤرخ اللبناني الذي يعرّفنا إلى كتابه الجديد «الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948 وبعدها» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) للثلاثي إلياس وفكتور وإلياس سحّاب. يشتمل العمل على جزأين: الأول حول «الموسيقى والغناء في فلسطين قبل 1948»، من تأليف الكاتب والباحث إلياس سحّاب، والمايسترو المعروف سليم سحّاب، سبق أن نُشر في «الموسوعة الفلسطينية» عام 1990، في دمشق برئاسة تحرير العلامة أنيس الصايغ، والثاني يتناول «الموسيقى في فلسطين بعد 1948 ـ فعل بقاء في الأرض وفعل توحيد» من تأليف فكتور سحّاب، سبق أن نُشر في التقرير الحادي عشر للتنمية البشرية لـ «مؤسسة الفكر العربي» عام 2019، تحت عنوان «فلسطين في مرايا الفكر والثقافة والإبداع».
في تقديم الكتاب، يوضح الأخ الأصغر إنّ الموسيقى العربية لم تكن تعنيه في البداية بقدر ما كانت تعني أخويه، «وللعمر دور في هذا قطعاً». كان الأبوان من أحرص الآباء على إحاطة أبنائهما بأسباب الثقافة، من كتب وأسطوانات موسيقية، «كبرنا في هذا الجو الذي كان والداي من أكبر المسهمين فيه، ثم أخذ يُسهم فيه إلياس. لم تغب عنّا الموسيقى العربيّة الجيّدة يوماً، لا من الإذاعات العربيّة ولا من جديد ما زخرت به السوق من أسطوانات. وحين ازدهرت المهرجانات الموسيقية في لبنان، لم تغب عنّا مواكبتها، مستمعين مواظبين، مدقّقين، متذوّقين، إلياس بصفته الصحافية التي تشعّبت إلى الكتابة السياسية والفنية، وسليم بأحلامه التي لم تفارقه يوماً وتدفعه في اتجاه اتخاذ الموسيقى تخصّصاً ومهنةً. أمّا أنا فكنت مستمعاً جيداً. أسمع ما يقوله أخواي وأختزن من ثقافتهما ما أمكنني». يحكي لنا كيف أنّه عمل في الإعلام، وصادف في «إذاعة لبنان» حليم الرومي، محمد غازي، يوسف الصفدي، حنا السلفيتي وعبود عبد العال، جميعهم ممّن لجأوا من فلسطين بعد النكبة، لكنّه لم يكن زميلاً لهم في الموسيقى، بل كان يكتب ويذيع البرامج والأخبار.
الكتاب هو بعض نتاج رحلة العمر الطويلة مع الموسيقى، ومع القضية الفلسطينية والجذور التي ترفض أن تنسى تربتها، بحسب فكتور، مضيفاً «قضيتنا الأولى، هي قضية فلسطين، والثقافة من أمضى أسلحتها. هذا هو إيماننا، وتلك هي حوافزنا».
يتضمّن الجزء الأول من الكتاب دراسة «تشتمل على الموسيقى التي يسمّيها أخواي الموسيقى المحتَرَفة وأسمّيها المدنيّة أي الكلاسيكية، والموسيقى الفولكلورية التي أسمّيها الموسيقى الريفيّة أو موسيقى الأرياف تشكّل جزءاً أساسياً في دراستهما». يعتبر فكتور أنّ أهميّة الكتاب تكمن في أنّ «سليم «نوّط» حوالي 30 نوعاً من الغناء الريفي الفلسطيني من الميجانا والعتابا والروزانا والشروقي والمعنى وأبوالزلف الخ، وهذه سابقة في عالم التنويط»، وكل هذا التراث تمّ اكتشافه مرة أخرى وينطبق تمام الانطباق على التراث الريفي نفسه في لبنان وسوريا والأردن وجزء من العراق، ما يعني أنّ فلسطين جزء من امتداد بلاد الشام الكبرى، المشرق من امتداد البلاد العربية بينما الموسيقى الكلاسيكية المدنية هي نفسها جزء من الموسيقى الكلاسيكية العربية الطقطوقة والدور والقصيدة والموشّح وامتدادها من فاس في المغرب وصولاً إلى بغداد. فلسطين جزء من هذا الامتداد العربي على الصعيدين المدني والريفي، وهنا تكمن أهمية الكتاب.
تولّى سليم سحّاب تنويط حوالي 30 نوعاً من الغناء الريفي من الميجانا والعتابا والروزانا والشروقي وأبو الزلف


وبما أنّ التاريخ لا يجب أن يُهمل، «أسهم إلياس مساهمة أساسية في كتابة التاريخ الموسيقي في فلسطين قبل 1948. نظرتنا إلى الثقافة أنّها ليست للتسلية والترفيه، وهنا تكمن خطورة الكتاب لأنّنا ندّعي أنّنا حاملو قضيّة، والخطير أيضاً أنّ النظريات السوسيولوجية والأنتروبولوجية تنقض النظرية العنصرية التي تقول إنّ الشعب يتكوّن من أبناء سلالة واحدة وهي قائمة على سلالة الدم والأرض. أتحدّث هنا عن النظرية النازية لنشوء الأمم («الدم والأرض» صاحبها بلوت أوند بودن)، فيما الألماني يوهان غوتليب فيخته وساطع الحصري قالا إنّ الثقافة والتاريخ يكوّنان الأمّة. لذلك، تُعتبر الثقافة الخيط الأساس في القماشة التي يتكوّن منها الشعب. وبما أنّ إسرائيل قائمة على النظرية العنصرية التي أُطلقت في ألمانيا، وقامت النازية على أساسها، فإنّها تنادي بأنّ المولودين من أمّهات يهوديات يريدون الأرض الفلسطينية بدل الدول التي كانوا يعيشون فيها. يضيف فكتور «إسرائيل تحاول نزع الثقافة عن الشعب العربي الفلسطيني، وليس فقط الأسماء الجغرافية وأسماء المدن والقرى والأنهار والسهول والشعر واللغة وغيرها، فهي اعتبرت أنّ الحمص والفلافل والتبولة ثقافة يهودية لا فلسطينية. كل هذا بهدف إزاحة الشعب العربي الفلسطيني من الصورة ولتفتيته. ونحن بقدر استطاعتنا نحاول في هذا الكتاب سلوك الاتجاه المعاكس، أي الحفاظ على الثقافة العربية الفلسطينية لدى الشعب الفلسطيني كجزء من المحافظة على وجود الشعب الفلسطيني».
يصف سحّاب مساهمته في الكتاب بأنّها مقالة معمّقة (لا دراسة) عن الغناء لفلسطين وللقضية الفلسطينية، وعن فلسطين في فلسطين، والبلاد العربية والغربية منذ سنة 1948 وحتى يومنا هذا، «ذكرت حتى مغنيّي الهيب هوب حول قضية فلسطين في أوروبا وأميركا».
ورداً على سؤال لمَن يكتب وما إذا كان يعوّل على الأجيال المقبلة، يُجيب: «نحن نقوم بواجبنا. منذ كتابي الأول عام 1980 عن القومية والمادية والدين، نحمل قضية: أن نكتب بالقلم على الورقة وليس على الحاسوب، واليوم وسائل التواصل الاجتماعي التي أعرف بعضها وأجهل بعضها الآخر تكوّن ثقافة الجيل الجديد حالياً، ولا أعلم كم سيصيبهم من ثقافة الكتب الورقية التي يعتبر امتدادها خطيراً منذ ما قبل الإسلام. التراث العربي الموجود من الجاحظ وغيره حتى المتنبي وأحمد شوقي وغيرهم، وقلّما يوجد هذا الثراء في تراث ما في العالم. وعلى الأجيال الجديدة الاطلاع على هذا التراث كي تتواصل العلاقة ما بين الأمّة العربية وأولادها، لأنّ الشعوب تتكوّن بالثقافة والتاريخ. وإذا ما تمّ الانقطاع عن هذه الأمّة وهذا التاريخ، فإنّ هذه الشعوب ستندثر وتصبح ملحقة ببقيّة الأمم وتختفي الأمّة العربية، وهذا لن يحدث لأنّ هناك شيئاً أساسياً سيحافظ على هذا التراث، هو القرآن والثقافة الإسلامية كونهما عنصرين أساسيّين تتمسّك بهما الشعوب العربية». ويوضح هنا: «الكتاب متوافر بصيغة رقمية على موقع «نيل وفرات»، ما يعني أنّ أحداً لن يُحرم منه وسيكون متوافراً للجميع بعد نفاد النسخة الورقية».
وعن مشاعره عندما يقرأ أهالي يافا الكتاب، يقول «في عام 1990، عندما كتب أخواي إلياس وسليم هذه الدراسة للموسوعة الفلسطينية، أنجزتُ لها كتاب «الفنون والتقاليد الشعبية والحرف اليدوية في فلسطين قبل 84» أيضاً، وحين صدر الكتاب عام 1993 خارج الموسوعة، بيعت في فلسطين سبعمئةً نسخة دُفعةً واحدة، وبما أنّ الكتاب الجديد صدر في لبنان والأردن، وكون هناك مواصلات مع فلسطين المحتلّة، آمل أن يصل بسرعة وبكميات كبيرة لينتشر كي يؤدّي غرضه ألا وهو الحفاظ على التراث الفلسطيني».
طلبنا من فكتور سحّاب إهداء كتابه لشخص واحد، فأجاب: «أهديه لكل مناضل فلسطيني يقول من النهر إلى البحر. أفرح جداً حين أسمع بالمدافعين والمقاتلين لأجل القدس ولكنّني أخاف أن ينسوا يافا، أنا مولود في يافا وأريدها إلى جانب القدس وكل الأراضي الفلسطينية المحتلة. إسرائيل لم تولد من أجل الاستيلاء على قطعة من الأرض، إسرائيل وُلدت بمشروع غربي من أجل تقسيم العالم العربي. أن نكتفي بقطعة من الأرض هو قبول جزئي بمشروع إسرائيل، وأرفض هذا المشروع برمّته».
وعمّا يعزّز حلم الغد على صعيد الكتابة والنضال لديه، يقول: «بما أنّني حائز شهادة الدكتوراه في التاريخ، تولّد عندي وعي ثقافي بالامتداد الحضاري قبل أن أولد وبعدما أموت. ولذلك أنا متفائل، لا أخاف أن لا تعود فلسطين قبل أن أموت، ولا أخاف على الأجيال المقبلة. بقيت الدولة الصليبية مئتي سنة ثمّ اندثرت، ولا أحد ينادي بعودتها إلا بصيغ أخرى، لأنّ الدول الغربية طمعت بفلسطين منذ أن بدأت السياسة الخارجية في أوروبا مع الاسكندر بغزوه المنطقة، وكان المراد الوصول إلى المحيط الهندي والنفاذ إلى الشرق. لذلك كانت فلسطين بلاداً مطموعاً بها في الغرب لأنها منفذ من شمال البحر الأحمر إلى هذا الشرق، من الاسكندر الكبير الذي غزا البلاد لأجل هذا الغرض إلى روما، وبيزنطية والدولة الصليبية والدول السبع في القرن السابع عشر والتاسع عشر التي تدخّلت في السلطنة العثمانية لأجل النفاذ إلى الغرب وصولاً إلى مشروع إسرائيل وسببه الأساسي بالنسبة إلى الغرب، هو هذا الطمع بهذا البلد من أجل النفاذ إلى الشرق... فلسطين كونها مدخلاً للغرب إلى الشرق، مسألة تاريخية عمرها أكثر من 2300 سنة، لذلك أنا متفائل بأنّه مثلما استُرجعت فلسطين من الاسكندر ومن روما ومن غيرهما، ستُسترجع من المشروع الغربي الجديد أي «إسرائيل»».
في الختام، يشير فكتور سحّاب إلى أنّه وأخويه لن ينالوا أيّ مردود مادي من الكتاب: «نحن متحمسون حماسة شديدة للكتاب لأنّ حوافزنا مختلفة. على الرغم من أنّ الإنسان لا يمكن أن يعيش من دون المادّة، أتطلّع إلى اليوم الذي ينفد فيه الكتاب ورقياً لأعمّمه بنسخته الرقمية من دون مقابل، وهذه أمنيتي».