I ـــــ في شارع غورو – الجميزة، حنينٌ إلى ما قبل 4 آب 2020، وإلى ما قبل جائحة كورونا. تتابع عمارة الزمنَين، الزمن العثماني والزمن الكولونيالي، وقد أشرنا إليه في الحلقة السابقة [3] نشاهده، في زياراتنا المتكرّرة، في الواجهة الجنوبية للشارع. لذا، لم تكن الهياكل الإنشائية لعمارات هذه الواجهة، تتمتَّع بالمرونة الضروريّة، لاستيعاب وظائف، تحتضن جماعات كثيرة العدد. عنيت البارات المتخصّصة، وعلب الليل، والمطاعم الواسعة، وحانات السهر.
لذا، لا نرى في الواجهة الجنوبية لشارع غورو – الجميزة إلاَّ بارات صغيرة معدّةٍ لجماعاتٍ بعيدة عن الصخب المعهود في السّهر. والمطاعم الكبيرة فيها نادرة. وأكثر ندرة، المطاعم الحانات الواسعة والمجزّأة مجالياً، بحثاً عن الخلوة المرجوة أحياناً، والصّخب السائد غالباً.
كلنا نتذكر شارع مونو. طوبوغرافيّته القاسية. ضيق الشارع الرئيس فيه. كثرة الزواريب الجانبية المختبئة. وعدم ملاءمتها للوظائف التي احتضنتها، ولأدائها السيّئ في القدرة على احتواء الساهرين. وكلنا نتذكر أنّ الشارع الهادئ البسيط المنحدر، الخالي من السكان، احتضن وظيفته الجديدة كمكانٍ للسّهر، بعد انتهاء الحرب الأهلية، نظراً إلى كونه مختبئاً، محايداً. فهو يستطيع أن يتناسى أنّه لم يكن في «الشّرقية»، إذ تفصله عنها جامعة وكنيسة ودير وحدائق. وهو ليس في الغربيّة، إذ تفصله عنها شوارع لا تزال مدمّرة. طريق الشّام، وشارع بشارة الخوري، وشارع سوريا.
شارع مونو، كان خالياً من السكان. مضيءٌ من تحت، معتم من فوق، كما كتبت مرة وهو شارع ميّت نهاراً. لا حركة فيه ولا حياة. وربما يصحّ القول بأن جادة الرئيس اللواء فؤاد شهاب، قد أعدمته عندما قطعت صلته بهدفه الرئيس، ساحة الدبّاس. التي دفنتها شركة الهدم والردم «سوليدير».

واختباؤه، هو فضيلته الوحيدة، في اختياره لوظائف الليل والسهر. لكن نسيجه المعماري لم يكن ملائماً، واختياره كان اختياراً ظرفياً لا اختياراً دائماً. فشل في الإستمرار، وانتقلت حياة الليل في بيروت إلى شارع غورو – الجميزة.
الإنتقال له أسباب واضحة. شارع غورو – الجميزة، يتمتع بهوية تاريخية جاذبة. هو شارع فسيح مستقيم، حركة السيارات فيه سهلة، ومريحة، في دخولها، وفي خروجها. وهو، فوق كل ذلك، شارع رئيس في المدينة، آهل، مسكون، مضيءٌ من تحت ومن فوق. واجهة الشارع الجنوبية، أعطته الهوية التاريخية الجاذبة. ولكن المجالات الملائمة، لوظائف السهر الحاشد الصاخب، هي وليدة مرونة الهياكل الإنشائية، لمباني واجهة الشارع الشمالية.
لم تُبنَ مباني الواجهة الشمالية في الزمن العثماني. وربما بني بعضها في الزمن الكولونيالي. إلا أن ما يصنع تجانس مباني الواجهة وتناغمها، هو أنها بنيت في زمن الحداثة الأولى وبعدها، في زمن حداثة الإستقلال، الحداثة الإمبريالية. نوافذ عريضة وآباجور ملوَّن، وشرفات خرسانية ناتئة مع متكآتها. وأبراجٌ حديثة سكنية، وأخرى زجاجية إدارية.
لذا نرى فيها كثيرة المقاهي، وتتابع المطاعم، وازدحام حانات السهر.
ونشاهد الآن النشاط السريع، لإعادة ترميم المطاعم والحانات، وتجهيزها مجدداً، وتشغيلها. لا بل تجديدها، وبعث نمط من الحياة جاذب فيها. متقاربة، متلاصقة تكاد تكون، في الواجهة الشمالية. يريدها، المدفوعون بالحنين إلى ماضي الجميزة الصاخب، يريدونها أمكنة مبادرة، لعودة الشارع إلى الحياة.
وهمٌ جميلٌ. ولكن كيف تعيش مدينة مهجورة؟ وهل تصنع سلسلة من المطاعم والحانات، مدينة؟
هل نسيتم تجربة شارع مونو؟
هل نسيتم إن شارع المعرض، نظّف ورُمّم، وجُهّز، افتتحت فيه المطاعم، وصار مزاراً للناس من الضواحي، ومن البعيد؟
كان الشارع مضيئاً من تحت، معتماً من فوق، تسكنه الأشباح. لم يتعرف ناس المدينة إلى المعرض بحلّته الجديدة. المعرض الشارع الشعبي، صار بمجمله حتى ساحة النجمة، سلسلة من المطاعم الفاخرة يقصده بعض الميسورين.
ومثل شارع مونو، عمل المعرض زمناً قصيراً. ومات بعدها. والآن نعرف جميعاً، إن ساحة النجمة، بكل تفرعاتها أقفلت، واقتلعت من حياة المدينة، فماتت أيضاً.

IIـــــ مدرسة القلب الأقدس، في نهاية العنق الطويل، في الواجهة الشمالية، وبعدها، برج مخفر قوى الأمن الداخلي.
وفي المقابل شارع بطرس داغر، ودرج مار نقولا في الواجهة الجنوبية. مدرسة القلب الأقدس في نهاية المدخل الطويل. بعد الفوَّهة البوَّابة عنق طويل. وللعنق ملحق، نهايته كنيسة مار يوسف، والمبنى الحديث المحاذي لشارع لبنان، الآتي من محلة التباريز في الواجهة الجنوبية، كما سبق وذكرنا. ونهاية الملحق في الواجهة الشمالية، مدرسة القلب الأقدس، وصالتها، والساحة أمام الصالة. يحدّها رواق طويل، مضياف.
مبنى المدرسة طويل، عمارته غربية. الكنيسة لصيقة المدرسة، اسطوانية الإطلالة على الشارع، وهي غربية العمارة بدورها. ناس الأمكنة يسمُّون المدرسة مدرسة «الفرير»، باسم الرهبان الكاثوليك مؤسسيها. واسم المدرسة، كما هو محفور فوق بابها الرئيس، مدرسة القلب الأقدس.
مثل شارع مونو، عمل شارع المعرض زمناً قصيراً. ومات بعدها. والآن نعرف جميعاً أنّ ساحة النجمة أقفلت، واقتلعت من حياة المدينة


المدرسة، كل مدرسة، هي مركز حياة رئيس حيث تقوم. معلّمون، وتلامذة، وإداريون، وأهالٍ يوصلون أولادهم، لينزلوا من السيارات، امام باب المدرسة الرئيس. تجمّع إنساني أكيد، ومقرُّ لحياة صاخبةٍ حلوة.
لكن تزامن عصف النكبة، مع انتشار الكورونا، أقفل المدرسة العملاقة العريقة. المدرسة مقفلة منذ أشهر. إنها فارغة. ربما تعمل كنيستها في الأعياد وفي المناسبات، وفق الشروط الصحيَّة الضرورية.
إلا أنها، بكتلتها الثقيلة، وبعمارتها الغريبة، وبلونها الرمادي الجنائزي، وبامتدادها المفزع... لكل ذلك، غادرتها الحياة بكل مظاهرها. وسكنها، موت رماديٌّ بارد. يتمدد بكل طوله، في موازاة رصيف الواجهة الشمالية. البوابة العملاقة في محور المبنى. لا دخول من البوابة، ولا خروج منها. يتجنب المارَّة، إذا وجدوا، وهم قلَّة نادرةٌ، السير على الرصيف بمحاذاة كتلة المدرسة المخيفة. فينتقل المار الوحيد غالباً، إلى الرصيف المقابل، حيث ينتصب مبنى زجاجي حديث. في وسط الطابق الأرضي فيه، مقهى ومطعم صغير. المقهى يعمل، وحيداً في محيطه الممتد. اثنان يجلسان حول طاولة مربعة، ابتسامة، تواصل من القلب، ومن العقل معهما. بضعة أمتار نخطوها، وينطفئ نور الحياة.

* المبنى البرج، مخفر قوى الأمن الداخلي
حارسان، حول مدخل المبنى البرج. سيارتان عسكريتان. واحدة فارغة، بجانبها عسكري. والثانية محشوَّة بعناصر من قوى الأمن الداخلي، بكامل أسلحتهم، تستعد للإنطلاق.
الحركة دائمة أمام بوابة البرج. تحية عسكرية، دخولٌ، خروجٌ. تبديل إحتفاليُّ للحرس حول البوَّابة. سيَّارة عسكريَّة تعود. تقف مكان السيارة التي انطلقت. رجل مكبَّل اليدين، ينزل من السيارة برفقة عنصرين من رجال الأمن. يمسك العنصران به، ويدخلانه إلى مبنى المخفر. تأتي سيارة مدنية فيها عدد من الشباب. حوار مع الحرس. ويدخل الشباب إلى المبنى البرج، الثكنة المخفر.
ساحة الحياة وسط الموت العام، محصورةٌ بعدة أمتار، على جانبي بوابة البرج – المخفر. قبل المخفر، مقهى الجمّيزة الشهير، بواجهاته الزجاجية الثلاث، لا يزال على حاله، كما عرفناه في زيارتنا الأولى، منذ أشهر. الواجهة الشمالية محميَّة. لم يطلها عصف النكبة. واجهات المقهى الزجاجية الثلاث سليمة. المجالات خلفها داكنة سوداء. لا شيء يُرى. ولا أثر لحياةٍ في المجالاتِ المختبئة المُعتمة.
تسير باتجاه الشرق، أبواب المتاجر مقفلة. ومجموعة المقاهي التي تُرمَّم ليُعاد فتحها، بعيدة. بعيدةٌ أيضاً، المنحدرات باتجاه شارع باستور في الرميل. وهي، بمعظمها، معتمة مهجورة. فقد عبرها العصف إلى الواجهة الجنوبية المقابلة. اقتُلِعَتْ الأبواب والشبابيك. لكنَّ الهيكل الإنشائي للمباني، خرسانيٌّ متين، صمد. وسلمت المباني.


* شارع بطرس داغر، ودرج مار نقولا
شارع بطرس داغر، يشدُّنا إلى الأجزاء الخلفية من منطقة الجميزة. إلى النسيج المبني، عند أسفل التلة. وإلى الفلل الفاخرة المبنية في المنحدر، وهي ملك آل سرسق. وقد سكن إحداها مرة، صديق لي. الفيلا بيت بورجوازيّ أنيق، من بيوت النصف الثاني من القرن التاسع عشر. محوري التأليف من طابقين. في محوره الأقواس الثلاثة الأنيقة والشرفة البيضاء الناتئة.
يستمر الشارع، ويصعد إلى تلة الأشرفية في أسفلها، قريباً من محلة التباريز. حيث يلتقي عند الإلتفافة، مع الطريق الصاعد إلى المرتفع، حيث شيدت قصور آل سرسق، والنادي اللبناني للسيارات.
أذكر هناك على الزاوية، عند الإلتفافة نحو النادي اللبناني للسيارات، المطعم الشهير المسمَّى «طاولة ألفرد» La table d’alfred. كما أذكر زيارة ممتعة، قمنا بها إلى النادي اللبناني للسيارات، في إطار مجموعة حماية التراث المبني، التابعة لوزارة الثقافة – المديرية العامة للآثار.
أما درج مار نقولا، فموقعه في منتصف شارع غورو – الجميزة، تقريباً.
الدرج، معلمٌ بارزٌ، في الواجهة الجنوبية للشارع. مسافة حياة بارزة في المحيط العام، غير ممتدة. محصورة بعرض الدرج تقريباً. الدرج عريض، مستقيم، فيه فواصل استراحة. تحوطه المباني من الجانبين. أبواب ندخل منها. وشبابيك تطل على الدرج. وشرفات صغيرة تعلوه. إنه شارع حقيقي، يربط بين شارع غورو – الجميزة، وقمة التلة، حيث الدور والقصور.
النشاط الرئيس في الشارع، هو لتجّار البناء، وللمضاربين العقاريّين، الذين يريدون تدمير هوية الشارع


تدعوك الحياة التي تحوط الدرج، إلى صعوده. يجلس عابرٌ على الدرج، مباشرة عند حدود الرصيف. يتسلَّق الدرج عابر آخر، ويجلس في منتصفه. من النادر أن ترى عابراً هناك. ومن النادر، إذا وجد، أن لا تراه يصعد بضع درجات. الدرج جاذب بذاته. لا تأثير يتركه على محيطه العام، بخلاف الدرج في مار مخايل، الذي يربط بين شارع أرمينيا الآهل بالسكان، وشارع الخازنين في أعالي الأشرفية، الآهل بالسكان أيضاً. الناس يبنون الحياة حولهم ويصنعون الأمكنة، لا العكس.
IIIـــ لا قيامة في الزمن القريب... والقيامة بعيدة... بعيدة...
في الناتج الأول، محاولات يائسة لبعث الحياة في الأمكنة، عبر إعادة الروح إلى بضعة دكاكين، (ثلاثة أو أربعة). يائسةٌ أقول، لأننا استعرضنا تجاربنا في بيروت، خلال ما يزيد عن عقدين من الزمن، أي منذ أوائل التسعينات، حتى يومنا هذا.
لي صديق يسكن أحد مباني الحداثة الأولى. إنها مجموعة من المباني، موحَّدة الهوية، شُيّدت كلُّها، في بداية الخمسينات من القرن الماضي، وهي في مواقعها قريبة من نهاية شارع غورو – الجميزة شرقاً، بالقرب من كليّة الثلاثة الأقمار. في الطابق الأرضي من المبنى المذكور، أعيد تجهيز واحد من الدكاكين الأربعة.


صديقي، هو واحد من المغامرين القلائل، الذين لم يهربوا. يرى، بعين العارف، فرادة هذه الأمكنة، لا بل ندرتها في بيروتنا اليوم. وهو، يعيش، بعقله، وبكل أحاسيسه، هُويتها الأصيلة، وقيمتها التاريخية الأكيدة.
سُرَّ صديقي، وهو من الحالمين القلائل، بعودة الروح إلى الأمكنة،
سرَّ صديقي بإعادة فتح الدكان. فصعد إلى منزله، وهاتف صاحب الدكان، وفق عادته منذ سنوات، يا «أبو جورج»، زجاجة عصير، وزجاجة ماء. وجاء جواب أبو جورج، عاصفاً كالعصف الذي أصاب الشارع، لا عصير لديَّ، ولا ماء، يا أستاذ.
ذُهل صديقي «الأستاذ»، من جواب أبي جورج. وكرَّر ملحّاً، عصير، وماء يا أبو جورج! فقال له أبو جورج، بلهجة من يعتقد أنّ الأمر بديهيٌّ، ولماذا تريدني يا أستاذ، أن أرصف في دكَّاني صناديق العصير والماء، ولا وجود في الأمكنة لمن يشتريه؟ الشارع فارغ يا أستاذ. لقد هرب الناس، وتركوا الزجاج المكسور، والأبواب المخلَّعة، ورحلوا. لقد هاجروا يا أستاذ. بعضهم يعيش في كندا الآن.
في الناتج الثاني. كانت الساعة قد تعدَّت السادسة، ومالت الشمس إلى الغروب. خرج صديقي، إلى شرفته المطلَّة على الشارع. الشارع شبه معتمٍ. فارغٌ، مفزعٌ. إضاءَته شحيحة. الأرصفة فارغة من العابرين. لا أحد. في المقابل، كل الطوابق العلوية معتمة. حُجبت النوافذ في بعضها، والداخل لا يرى. بعض أعمال الترميم خلف ستائر بيضاء هنا، وخلف الستائر الخضراء المعروفة، هناك. سيل السيارات العابرة نهاراً، توقف مساءً. إصطفّت بعض السيارات على جانبي الطريق. غرقت الشمس في البحر وسيطرت العتمة. «العتمة من تحت ومن فوق». خلافاً لما كتبته في نصٍّ نشر في جريدة «السفير» في 30/8/2002، بعنوان «ناس البلد في البلد». كتبت في حينه، واصفاً شارع المعرض، «مضيء من تحت، معتمٌ من فوق».
لفت صديقي، وسط العتمة، تتابع عدة واجهات زجاجية عريضة، مضاءة في الواجهة الشمالية قبالته في شارع غورو – الجميزة. إضاءة مستغربة، محيّرة، وسط الظلمة التي تحوطها.
نزل إلى الشارع، يدفعه فضوله. اجتازه إلى الرصيف المقابل حيث الواجهات الزجاجية العريضة الثلاث، المضاءة. ثلاثة مطاعم أعيد تجهيزها. ثلاثة مطاعم تعمل أيضاً كحانات للسهر، دفع الحنينُ أصحابها، لإنفاق مبالغ، بما يتيح إعادة تشغيلها.
في المطعم – الحانة الأول، نادل خلف البار، ونادلان آخران يقيسان المجالات ذهاباً وإيّاباً. شخصان حول طاولة في زاوية خفرة. المناخ العام مشابه في المطعمين الملاصقين.
يدرك أصحاب المطاعم بالتأكيد، أن الساهرين «أيام زمان»، لم يكونوا من سكان الشارع. وأنهم كانوا يأتون، من مناطق قريبة وبعيدة، ليسهروا في شارع جميل جاذب. واضح الهوية، أفقي. لا صعوبة فيه، تعوق الإنتقال من رصيف إلى آخر، ومن حانة إلى أخرى.
لقد أتعبهم شارع مونو بجغرافيّته وبضيقه، وبالسيارات المزدحمة تزيده ضيقاً على ضيق. أتعبتهم الزواريب الضيقة، والطوابق العلوية المعتمة. أتعبهم كل ذلك، وأحسن المستثمرون استغلال كل العناصر الجاذبة في شارع غورو - الجميزة، في ليله وفي نهاره.
ولكن من يأتي اليوم ليرفّه، في شارع مهجورٍ معتم؟ ثلاثة دكاكين، وأربعة مطاعم لا تصنع حياة. الحياة يصنعها الناس. الناس يصنعون الأمكنة. يضيفون إليها هوية. يزرعون فيها الفرح. الأمكنة المهجورة، لا قدرة لها على إعادة إنتاج ذاتها. هذه القدرة تعود إلى الناس فقط، إلى الجماعة.
الناتج الثالث. شارع غورو – الجميزة موجود في المنطقة الارتفاقية الثانية. عامل الاستثمار الأقصى في المنطقة الارتفاقية المذكورة، وفق قانون البناء المعمول به راهناً، هو سبعة. أي أن من يملك عقاراً مساحته 1000 م2، يستطيع أن يبني فيه 7000 م2، مع الدرج، والمصعد، والشرفات المقفلة، أي برجاً من ثمانية وعشرين طابقاً، بمساحة 350م2 في الطابق الواحد، يقارب ارتفاعه، التسعين متراً.
نرى في الشارع اليوم، بعض أعمال الترميم. من هذه الأعمال، قسم يتم بمتابعة مباشرة من المديرية العامة للآثار، ولكن النشاط الرئيس في الشارع، هو لتجار البناء، وللمضاربين العقاريين، الذين يريدون تدمير هوية الشارع، واستبدالها بالأبراج العمودية تنطح السماء، مثل مثيلاتها في تلة الأشرفية، أو في منحدرات الرميل.
يصَرّح محافظ بيروت، عبر شاشات التلفزة، أنه، لن يوقّع أي طلب للهدم في شارع غورو – الجميزة.
وفي تصريح مماثل، يؤكد الصديق سركيس خوري، مدير عام المديرية العامة للآثار أنه بدوره، لن يوقع أي طلب مماثل. المسؤولان المذكوران يعرفان جيداً، أن للمضاربين أساليب أخرى، توصلهم إلى ما يريدون. والأمثلة كثيرة ومعروفة. كل الثقة بالمسؤولين اللذين ذكرنا.
ولكن، في غياب قيامةٍ قريبة، الحذر الشديد مطلوب، كي لا ينجح السماسرة في اغتيالِ الهُوية، في أحد أجمل الأمكنة في بيروت.
* معمار لبناني